`
بعد الخجل عزة و فخر

بعد الخجل عزة و فخر

الإرادة تصنع المستحيل بائعة بسيطة استطاعت أن تغيّر مستقبل أسرتها بالكفاح والصبر

العمل الشريف، مهما كان صغيرًا، يفتح بيوتًا ويربّي أجيالًا. لا نستصغره، بل نشجعه ونقف خلفه أكثر من المشاريع الكبيرة. سواء كنت بائعًا متجولًا، أو صاحب بسطة متواضعة، أو حارسًا، أو عامل نظافة… فأنت تؤدي رسالة عظيمة.

أيها الابن / أيتها الابنة، إيّاك أن تخجل من عمل أحد والديك، بل ليكن لك الفخر أمام المجتمع كله، فعملهم الشريف أرفع قدرًا من مسؤول ينهب ثروات وطنك، تلك التي قد تستعيدها أنت يومًا ما بعزّ وشرف.

من رصيف اللحوح إلى قمة الطب: قصة إلهام لا تُنسى في زحمة الحياة وضجيج المدن، تتوارى قصصٌ كثيرة خلف الستار، قصصٌ تُروى عن الكفاح والإصرار، عن الأمل الذي يولد من رحم المعاناة، وعن أيادٍ بيضاء تمتد لتضيء دروبًا كانت تبدو مظلمة. قصتنا اليوم ليست مجرد حكاية عابرة، بل هي شهادة حية على قوة الإرادة، وعظمة التضحية، والتأثير العميق الذي يمكن أن يحدثه معلمٌ واحد في حياة طالب. إنها قصة شاب يمني، انطلق من رصيف اللحوح المتواضع في صنعاء، ليحلق عاليًا ويصل إلى أرقى المستشفيات في لندن، قصةٌ تستحق أن تُروى، وأن تُخلد في ذاكرة الأجيال، لتكون منارةً لكل من يظن أن الظروف قد تقف حائلًا بينه وبين أحلامه.شرارة الأمل: معلمٌ يرى ما وراء الظاهرقبل ما يقارب الثمانية والثلاثين عامًا، في إحدى مدارس صنعاء، كان الأستاذ فاروق الظرافي، معلم اللغة الإنجليزية، يلاحظ طالبًا ذكيًا بشكل لافت، لكنه كان كثير الغياب. الفضول دفعه للسؤال عن سبب هذا الغياب المتكرر، ليكتشف حقيقة مؤلمة من أحد زملائه: والدة الطالب تبيع "اللحوح" على الرصيف، وأن هذا العمل الشريف كان سببًا لمعايرة زملائه له، بل وأحيانًا كان يفتقر حتى لأجرة المواصلات. لم يكن الأستاذ فاروق مجرد معلم يلقن الدروس، بل كان إنسانًا يرى ما وراء الظاهر، يرى الإمكانات الكامنة في هذا الطالب، ويشعر بمعاناته. قرر أن يمد يد العون، لا بالمال فقط، بل بالدعم النفسي والمعنوي الذي يغير مجرى حياة بأكملها.تسلل الأستاذ بحكمة إلى عالم الطالب، كسب ثقته، ثم اصطحبه في سيارته القديمة. كانت تلك السيارة، التي اشتراها بعشرة آلاف ريال، رمزًا لبساطة الأستاذ وعمق إنسانيته. لم يكن الأستاذ فاروق مجرد معلم، بل كان يعمل أيضًا مترجمًا في مجلس الشعب التأسيسي، ويجمع من عمله ما يكفيه لمساعدة من حوله. هذا التفاني في العطاء، وهذه الروح السخية، كانت هي الوقود الذي أشعل شرارة التغيير في حياة الطالب.لحظة المواجهة: كرامة لا تُهان وصل الأستاذ والطالب إلى حيث تعمل الأم، وتظاهر الأستاذ بأنه لا يعرفها، اشترى منها اللحوح، وتجاذب معها أطراف الحديث. سأل عن زوجها المتوفى، وعن أبنائها، لتخبره أن لديها ابنتين وولدًا يدرس في الصف الأول الثانوي، لكنه يتغيب بسبب معايرة زملائه لها. هنا، كشف الأستاذ عن هويته، وأخبر الأم أن ابنها معه في السيارة، وأنه سيعزمه على الغداء. طلب منها أن تتصرف وكأنها لا تعرفه، ليمنح الطالب فرصة لمواجهة مشاعره دون ضغط.في السيارة، راقب الولد المشهد، وسأل الأستاذ: "تعرف هذه المرأة؟" أجاب الأستاذ بحكمة بالغة: "لا، لكنها ذكّرتني بأمي، الله يرحمها… أمي كانت تبيع خبز وملوّج عشان تصرف علينا، وطلعتنا مدرسين ومهندسين… هؤلاء الأمهات العظيمات ما في مثلهم". كانت هذه الكلمات كالسحر، بدأت تغير وجه الطالب، ثم قال بصوت خافت: "هذه أمي". صدمة الأستاذ كانت مصطنعة: "مش معقول! ليش ما نزلت تسلّم عليها؟" رد الطالب بخجل: "أستحي… الناس يعايروني". وهنا جاءت الكلمات التي غيرت كل شيء: "تستحي؟ أمك ما تشحت، ما ترقص، أمك تشتغل بشرف".كانت هذه اللحظة هي نقطة التحول. نزل الطالب من السيارة، ركض نحو أمه، ضمّها وبكى. كانت دموعًا تطهر الخجل، وتغسل العار الذي زرعه المجتمع في نفسه. قال لها: "هذا أستاذي، عازمنا اليوم عنده غداء". وفعلاً، تعشوا معًا، وكان يومًا لا يُنسى، يومًا أعاد فيه الأستاذ للطالب كرامته، وللأم فخرها بابنها.ثمار العطاء: من رصيف اللحوح إلى مستشفيات لندن في اليوم التالي، دخل الأستاذ الفصل، وبدأ يحكي قصة عن "أمي التي كانت تبيع خبزًا لتعيلنا". رفع الطالب يده، وبكل فخر قال: "أنا مثل أستاذي، أمي تبيع لحوح عشان تصرف علينا". كانت هذه الكلمات إعلانًا عن تحرر الطالب من قيود الخجل، وإشارة إلى أن بذرة الفخر قد نمت في قلبه. لم يتوقف الأستاذ عند هذا الحد، بل اصطحب الطالب وزملاءه لتقبيل رأس الأم، وكرروا ذلك أكثر من مرة. وفي عيد الأم، اشترى الطلاب هدية لها، واستأجروا ثلاث حافلات، وذهبوا ليسلموا عليها في الشارع أمام بسطتها. كانت هذه اللحظات دروسًا عملية في احترام العمل الشريف، وفي تقدير الأم، وفي بناء مجتمع يتسامى على الأحكام المسبقة.مرت السنوات، واصل الأستاذ عمله، ونسي القصة. لكن بعد ثلاثين عامًا، شاءت الأقدار أن يرافق رجل أعمال في رحلة علاج إلى لندن. وهناك، نصحهم يمني بالتوجه إلى طبيب يمني ممتاز يعمل في مستشفى لندن الجامعي، أحد أشهر مستشفيات المملكة المتحدة. دخلوا عليه، وفوجئ الأستاذ بالطبيب يقوم من مكتبه، يحتضنه، ويقبل رأسه، ويقول: "أنت الأستاذ فاروق! ما تغيّرتش! أنت من غيّرت حياتي!".كانت لحظة مؤثرة، استعاد فيها الأستاذ كل الذكريات. هذا الطالب الذي كان يخجل من أمه، أصبح اليوم دكتورًا استشاريًا في القلب في أشهر مستشفيات لندن، يحمل الجنسية البريطانية، ومتزوج، ووالدته تعيش معه بعز وكرامة. رجل الأعمال الذي كان يرافقه الأستاذ، ما زال حتى اليوم يروي القصة أينما جلس، كشاهد على قوة الإنسانية وتأثيرها.العبرة: نورٌ يبدد الظلام متابعا هذه القصة أن المجتمع قد يحبطنا أحيانًا بعاداته وتقاليده العقيمة، وبأحكامه المسبقة التي لا تراعي الظروف. لكن إنسانًا واحدًا، يمتلك بصيرة نافذة وقلبًا كبيرًا، يمكنه أن يرى ما وراء الظاهر، وأن يمد يد العون، ليرفع إنسانًا من قاع اليأس إلى قمة النجاح. إنها تحية لكل أم تصنع من العمل الشريف قصة فخر، ولكل أستاذ كان نورًا يبدد ظلام الجهل والخجل في حياة طلابه. إنها دعوة لنا جميعًا لنكون هذا النور، لنرى الإمكانات في الآخرين، ولنمد يد العون، فربما نكون سببًا في تغيير حياة بأكملها، وصناعة قصة نجاح تُروى لأجيال.
 

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.