`
أشك في أمي

أشك في أمي

قصة عن الحب الحقيقي والتضحيات التي قد لا نراها في البداية، ولكننا نكتشفها عندما نكون في أمس الحاجة لها.

أمي جميلة، صغيرة في العمر، ويجمعنا فارق بسيط لا يزيد عن سبعة عشر عامًا. رغم قرب أعمارنا إلا أنني لم أرَ في حياتي أمًا أشد منها حرصًا على التقاليد وتعاليم الدين الإسلامي، ومظاهر الشرف. لكن هذا الحرص ترافق مع قسوة شديدة تُلقي بظلالها على حياتي. كانت أمي تريدني دائمًا بجانبها، وترى خروجي وحدي إلى الشارع جريمة، وحديثي على الهاتف عارًا، حتى لو تأكدت أنني أحادث صديقاتي فقط.

اللحظات القاسية بعد وفاة أبي

فقدت أمي أبي منذ عامين. توفي أبي في عز شبابه، وكان رحيله صدمة كبيرة لنا. لكن بدلاً من أن تخفف أمي من تشددها بعد وفاته، ازدادت حدةً وقسوةً، ليس فقط علي، بل حتى على نفسها.

لا تزال ترتدي السواد منذ وفاته، ولا تزال تزور قبره صباح كل يوم جمعة دون انقطاع. أما خروجها من البيت، فهو أمر نادر، وغالبًا ما يقتصر على زيارة جدي أو الذهاب إلى المقبرة.

أما فكرة الزواج، فهي مرفوضة تمامًا بالنسبة لها. تعتبر أي شخص يتحدث عن زواجها وكأنه يهينها. أمي كانت تحب أبي حبًا شديدًا، وكان حبها الأول والأخير.

الحياة المتحررة التي أحلم بها

ورغم قسوة أمي وحرصها على الالتزام بالتقاليد، إلا أننا لا نعيش في بيئة متشددة. نسكن في وسط المدينة، وأنا أدرس في مدرسة خاصة، حيث تعيش زميلاتي حياة مليئة بالمرح والانطلاق. كنّ يضحكن ويتحدثن عن تجارب ممتعة أجد نفسي محرومة منها.

قررت حينها أن أبحث عن طريقي الخاص، حتى لو اضطررت لخداع أمي. كنت أخرج أحيانًا مع زميلاتي خلال الحصص الدراسية دون علمها. نذهب إلى المطاعم لتناول السندويشات والآيس كريم، ثم نعود إلى المدرسة قبل أن يلاحظ أحد غيابنا.

الخداع الأكبر: محادثة “حبيبي”

بدأت محادثة شاب أحببته عبر الهاتف، حتى وأمي تجلس أمامي. كنت أستغل جهلها باللغة الإنجليزية لتكون تلك اللغة غطائي. كنت أشعر أحيانًا أن أمي تشك في الأمر، لكنها لم تفهم شيئًا. ومع ذلك، كنت أتلذذ بهذا الخداع وأعتبره انتقامًا لقسوتها علي.

أحيانًا، كانت تصرخ وتطالبني بترك الهاتف، فأجيبها بدلال كاذب: "حاضر يا أمي". لم تكن تعلم أنني أتفق مع "حبيبي" على إبقاء أخته بجانبه إذا ما حاولت أمي التحقق من الأمر. كنت أظن أنني أنتصر عليها، لكنها كانت تسجل هذا الانتصار في قلبها بطريقة لم أتوقعها أبدًا.

سر غامض: إلى أين تذهب أمي؟

ذات يوم، كنت في المدرسة واضطررت للاتصال بأمي لإبلاغها أن لدينا حصة إضافية. تفاجأت برد أخي الصغير الذي أخبرني أن أمي ليست في المنزل. لم أستطع أن أصدق، لأن أمي لم تعتد الخروج في هذا الوقت.

سألتها في المساء عن سبب خروجها، فتعلثمت وأجابت بأنها ذهبت لزيارة زوجة عمي المريضة. لم أصدقها، وبدأ الشك يتسلل إلى قلبي.

تكررت المواقف ذاتها؛ أمي تغيب عن المنزل في أوقات محددة، دون أن تخبرني شيئًا. أصبحت أراقب تصرفاتها، أتحسس خطواتها، وأتساءل إن كان لها "عشيق".

اللحظة الحاسمة: كشف الحقيقة

قررت في أحد الأيام أن أراقبها بنفسي. تخلفت عن الذهاب إلى المدرسة، واختبأت في الحديقة، حتى رأيت أمي تخرج من البيت وفي يدها كيس من الورق. تبعتها بخطوات حذرة، حيث استقلت سيارة أجرة واتجهت إلى عمارة ما.

ارتجف قلبي، وأنا أتساءل: هل هذه هي اللحظة التي سأكتشف فيها خيانتها؟ لكنها فاجأتني. دخلت أمي إلى مبنى يحمل لافتة كُتب عليها: المعهد العالي لتعليم جميع اللغات.

لم أصدق عيني. رأيتها تجلس على أحد مقاعد الدراسة، ثم التفتت نحوي بدهشة. شعرت حينها وكأن الأرض قد ابتلعتني.

أمي المثالية.. التضحية بلا حدود

اقتربت منها وسألتها بصوت مرتجف: “ماذا تفعلين هنا يا أمي؟”

أجابت بصوت مفعم بالحب والألم: "أتعلم الإنجليزية كي أفهم ما تقولين على الهاتف".

انفجرت بالبكاء وألقيت نفسي في حضنها. رويت لها كل شيء، ووعدتها بألا أخدعها مجددًا. منذ ذلك اليوم، أصبحت علاقتنا أعمق من أي وقت مضى.

لا تزال أمي ترتدي السواد، ولا تزال تزور قبر أبي كل يوم جمعة. لكنها أيضًا مستمرة في تعلم اللغة الإنجليزية، ليست فقط لتفهمني، ولكن لأنها تريد أن تكون قريبة مني بكل طريقة ممكنة.

إلى أمي: أحبك من كل قلبي. أنتِ قدوتي، وأعدك بأن أكون دائمًا جديرة بحبك وتضحياتك.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.