`

صغير العقل يبقى صغيرًا

العقل هو مناط التكليف ومقياس النضج الحقيقي

لقد جعل الله العقل مناط التكليف، وبه يُفرَّق بين الإنسان القادر على تحمل المسؤولية وبين من لا يستطيع ذلك، إذ إن العاقل يفهم الخطاب، ويدرك ما ينفعه وما يضره، ولديه الدافع الفطري لاختيار الخير والابتعاد عن الشر. ولكن في المقابل، نجد من الناس من هو كبير في جسده وصغير في عقله، تغلبه شهواته النفسية وتسيطر عليه غرائزه، فلا يكاد يتجاوز التفكير السطحي، ولا يرتقي إلى مستوى النضج العقلي والاتزان الفكري.

صغير العقل دنيُّ الهمة، سخيف الرأي، هابط الاهتمام، ينجرف وراء التفاهات، وينشغل بما لا طائل منه، فلا يؤثر في الحياة إلا بالسلب، ولا يترك أثرًا محمودًا في مجتمعه. إنه ذلك الشخص الذي لا يسير وفق معايير التفكير السليم، ولا يبني قراراته على بصيرة، بل تجده مندفعًا وراء رغباته، أسيرًا لأهوائه، يتخذها موجهًا لسلوكه، فينحرف عن جادة الصواب.

الشهوات المسيطرة على العقول

العقول الصغيرة تُساق بالشهوات، فتجد صاحبها ينساق خلف نزواته دون تروٍّ أو إدراك للعواقب. ومن هذه الشهوات التي تُضعف العقول وتُذهب الحكمَة:

1. حب الشهرة والظهور

هذه من أخطر الشهوات التي تجعل الإنسان مستعدًا لفعل أي شيء في سبيل تحقيقها. فتراه يتلفظ بأقوال سخيفة، ويرتكب أفعالًا تافهة، ويتكلف في تصرفاته ليكون ملفتًا للنظر، ولو كان ذلك على حساب قيمه ومبادئه. إنه مستعد للانحدار إلى أدنى المستويات، لمجرد أن يكون "حديث الناس" أو "ترندًا على وسائل التواصل".

2. شهوة حب النساء

هناك من لا يستطيع كبح جماح هذه الشهوة، فيقع بسببها في المحظورات، أو يبرر لنفسه سلوكيات غير لائقة تحت مسميات زائفة، مثل الانفتاح والتقدم. بل قد يروج لهذه الأفكار حتى يُظهر نفسه متحررًا ومتنورًا، بينما هو في الحقيقة أسير لشهوته، وكل موقف يتبناه يكون خلفه دافع خفي لا علاقة له بالعقل أو المنطق، وإنما هو مجرد انجراف عاطفي أو شهواني. وينسى أنه رب أُسرة، وفي صلاحه صلاح لأبنائه، فهو قدوتهم في الحياة.

3. شهوة المال والمناصب والجاه

بعض الناس لا يرى في هذه الدنيا سوى المكاسب المادية أو المناصب الرفيعة، حتى لو كان السبيل إليها غير مشروع. فيبيع مبادئه، ويتخلى عن قيمه، ويخدع الناس، ويتلون وفق ما يخدم مصالحه. هؤلاء هم من يسقطون في مستنقع الموبقات، ويضحون بدينهم وأخلاقهم مقابل فتات الدنيا، غير مدركين أن ما يسعون إليه زائل، وأنهم يجنون على أنفسهم قبل غيرهم. ومن أعظم الأسباب لذلك: عدم الرضا والقناعة بما قسم الله له من الرزق، وكذلك غياب الدعاء بالبركة في المال والولد.

المراهقة الفكرية وأزمة النضج العقلي

المراهقة في مرحلة عمرية معينة قد تكون أمرًا طبيعيًا، حيث يمر الإنسان باضطرابات فكرية وعاطفية قبل أن ينضج ويستقر، ولكن الكارثة حين تستمر هذه المراهقة طوال الحياة! هناك من يكبر سنًا لكنه يظل صغيرًا في عقله، لا ينضج، ولا يطور تفكيره، بل يبقى سطحيًا في آرائه، تافهًا في اهتماماته.

عندما ينضج الإنسان طبيعيًا، تتغير أولوياته، وتتسع رؤيته للحياة، فيصبح أكثر مسؤولية. فالشاب المراهق قد يتغير سلوكه بمجرد أن يتزوج، فيشعر بمسؤولية الأسرة، ثم تزيد همومه حين يصبح أبًا، وتكبر نظرته للأمور عندما يتولى منصبًا أو مسؤولية مجتمعية، فيرتقي خطابه وتعمق رؤيته. لكن ماذا عن الشخص صغير العقل؟

هو لا يتغير، يبقى كما هو، مهما تقدم به العمر، ومهما حصل على شهادات علمية أو اعتلى مناصب مرموقة. تراه يعيش في طفولية فكرية، يتصرف بسطحية، ويصدر أحكامًا سطحية، ولا يتحمل أي مسؤولية.IMG-20250211-WA0000
 

صفات صغير العقل

  • سخيف التفكير، سطحي الرؤية: لا ينظر إلى الأمور بعمق، ولا يضع اعتبارًا للعواقب.
  • فوضوي الخطاب، عديم المسؤولية: يتحدث بغير علم، وينشر الفوضى في النقاشات.
  • شهواني العقل، أسير الإثارة: لا يستطيع العيش دون إثارة الجدل، بل قد يتعمد إهانة نفسه ليظل في دائرة الاهتمام.
  • مهووس بالترند والشهرة: يسعى بأي طريقة لأن يكون حديث الناس، ولو كان ذلك بالسقوط في مستنقع التفاهة. والسبب في ذلك أن الأغلب يفتقد القدوة الصالحة من الأنبياء والرسل والصالحين، وينجرفون وراء المشاهير الذين همهم الكبير تدمير الجيل القادم.

هذه الفئة من الناس تكثر في "السنوات الخداعات"، حيث تختلط المعايير، ويُرفع فيها السفهاء، ويُسكت فيها أهل الحق والحكمة. إنها مرحلة يصبح فيها النجم اللامع هو التافه، وفاحش القول هو القدوة، والإثارة هي الوسيلة الوحيدة لجذب الانتباه.

عبرة من الحديث النبوي

ورد في الحديث النبوي الصحيح:

"سيأتِي على الناسِ سنواتٌ خدّاعاتٌ؛ يُصدَّقُ فيها الكاذِبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤتَمَنُ فيها الخائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأمينُ، وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ". قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟ قال: الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامة.

إنها نبوءة تتجلى في واقعنا اليوم، حيث تسود التفاهة، ويصبح "الرويبضة"—أي التافه—هو المتحدث في أمور العامة، بينما يُحجَب أهل العقل والحكمة عن المشهد.

ختامًا: كن كبير العقل

العقل نعمة عظيمة، فمن رزقه الله عقلًا ناضجًا، فليحمد الله عليه، وليحافظ عليه من أهواء النفس وشهواتها. ليكن الإنسان مسؤولًا عن أقواله وأفعاله، فلا ينجرف وراء موضة الشهرة، ولا يسقط في فخ حب الظهور، بل يجعل اهتماماته سامية، وتفكيره ناضجًا، وهمته عالية. فالعقل الكبير يبني الأمم، والعقل الصغير يهدمها!

نصيحة لصغير العقل:

من يرى نفسه كذلك، فليحاول تغيير نفسه، واللجوء إلى الله، والتقرب بالطاعات أكثر، وكثرة الاستغفار، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.