لم نكشف بعد سوى جزء يسير من خيوط الحكاية، فما زال هناك أحداث لم تخطر على بال بشر. بعد لقاء الإخوة وسط دموع الشوق ولهفة الغياب، بدأت المفاجآت تتوالى، مفاجآت حملتها ثمانية وثلاثون عاماً من الغربة داخل الوطن؛ غربة الأهل والضياع والشتات. وفي زاوية مظلمة من الكهف، سنبحر معكم في كلمات ستقودنا إلى أعماق قلب أمٍ لا مثيل لها، احتضنت أطفالاً لم يكونوا أطفالها. لكن، بعد كل ما تكشّف من حقائق، يبقى السؤال: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ هذا ما سنرويه لكم في الجزء الثاني من القصة.
لقاء الإخوة
كان سمير عبد العزيز الغامدي، حارس غابات في أبها، يبلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاماً. صورته على موقع إدارة الغابات أظهرت رجلاً طويل القامة، ذا بشرة سمراء، وعينين عسليتين تشبهان عيني ياسين بشكل مذهل.
حين رأى ياسين الصورة شعر بقشعريرة غريبة، كأنه ينظر في مرآة تعكس وجهه عبر بُعد زمني آخر.
أما العثور على مازن فكان أصعب بكثير. وبعد بحث طويل اكتشف ياسين ممرضاً اسمه مازن أحمد الدوسري يعمل في مستشفى الملك فهد في الأحساء. كان مازن أيضاً في الثامنة والثلاثين من عمره، وتشبه ملامحه ياسين وسمير بدرجة تكاد تكون نسخة طبق الأصل.
لكن كيف يمكن لياسين أن يتواصل مع رجل غريب ليقول له: "أعتقد أننا إخوة، وأننا وُلدنا في اليوم نفسه، وأن امرأة تُدعى فوزية أنقذتنا من الموت ونحن أطفال"؟
قرر ياسين أن يبدأ بسمير.
اللقاء الأول
في صباح يوم جمعة مشمس، اتصل ياسين بإدارة الغابات وطلب التحدث معه.
قال ياسين عبر الهاتف:
– مرحباً يا أستاذ سمير، اسمي ياسين المطيري، أنا إمام جامع في الطائف. أعتذر على الإزعاج، لكنني أود التحدث معك في أمر شخصي مهم جداً.
كان صوت سمير عميقاً يحمل لهجة أهل الجنوب المميزة. أجابه قائلاً:
– أهلاً وسهلاً يا شيخ ياسين، كيف يمكنني مساعدتك؟
رد ياسين:
– الأمر معقد ولا أستطيع شرحه عبر الهاتف، لكني أعدك أن اللقاء لن يستغرق أكثر من ساعة.
تردد سمير قليلاً، لكن شيئاً ما في نبرة ياسين ـ ذلك الصدق والإلحاح ـ جعله يوافق. اتفقا على اللقاء بعد ثلاثة أيام في مقهى شعبي في واسط أبها.
حين وصل ياسين إلى المقهى كان قلبه يخفق بجنون. جلس في زاوية هادئة وطلب كوب شاي أحمر. بعد دقائق دخل رجل طويل القامة بثوب أبيض ويحمل عصاً خشبية صغيرة.
توقّف الزمن عندما التقت عيناهما.
كان سمير يشبه ياسين بطريقة مخيفة: نفس الطول، نفس الملامح، نفس العيون العسلية وحتى طريقة المشي.
اقترب سمير مذهولاً وقال:
– سبحان الله! إنك تشبهني كثيراً.
ابتسم ياسين ابتسامة متوترة وقال:
– هذا بالضبط ما أردت أن أتحدث معك عنه.
أخرج ياسين الرسالة من حقيبته ووضعها على الطاولة:
– أريدك أن تقرأ هذه وتخبرني إن كان أي شيء فيها مألوفاً لك.
قرأ سمير الرسالة ببطء، ووجهه يتغير من الفضول إلى الذهول، ثم إلى الصدمة الكاملة. وعندما أنهى القراءة رفع رأسه والدموع تملأ عينيه:
– يا إلهي... أنا أيضاً وُلدت في نوفمبر 1979! وأنا أيضاً نشأت مع عائلة ليست عائلتي الحقيقية. ووثّقت ولادتي عام 1983. هل تعتقد أننا إخوة؟
أجاب ياسين بثقة:
– أعتقد أننا إخوة يا سمير... نحن توأم ثلاثي.
اكتمال اللقاء
بعد أسبوع من هذا اللقاء المصيري، تمكّن ياسين وسمير من إقناع مازن بالحضور للقائهما في الرياض. كان متردداً ومشككاً في البداية، لكن حين أرسل له ياسين صورته مع سمير، لم يستطع إنكار التشابه المذهل.
التقوا في فندق صغير وسط الرياض. عندما دخل مازن ورأى الاثنين يجلسان جنباً إلى جنب، توقّف مكانه وكأنه يرى شبحاً. التشابه كان لا يُصدق.
جلس مازن متوتراً وقال بصوت مرتجف:
– هذا... مستحيل.
حينها أخبره ياسين وسمير بكل شيء: الرسالة، التواريخ المزيّفة، قصة فوزية، وكل التفاصيل. وفي النهاية اتفقوا على إجراء فحص الحمض النووي.
الصدمة الكبرى
بعد أسبوعين من الانتظار المليء بالقلق، جلس الثلاثة أمام طبيب الوراثة الدكتور خالد النعيمي في مختبر الأصول العربية بالرياض.
قال الطبيب بابتسامة عريضة وهو يحمل النتائج:
– أيها السادة، النتائج لا تترك مجالاً للشك: أنتم إخوة... توأم ثلاثي متطابق مائة بالمائة.
انهار سمير بالبكاء، ودفن رأسه بين يديه. أما مازن فقد ظل صامتاً لدقائق طويلة يحدق في التقرير غير قادر على التصديق. بينما جلس ياسين، الأكثر استعداداً لهذه اللحظة، يشعر بمزيج غريب من الفرح والحزن والغضب.
قال مازن بصوت مكسور:
– ثمانية وثلاثون عاماً من الوحدة، بينما كان لدينا إخوة!
رد ياسين واضعاً يده على كتفه:
– لكننا عرفنا الآن... ويمكننا أن نبدأ من جديد.
تساءل سمير وهو يمسح دموعه:
– وماذا عن فوزية؟ ماذا عن المرأة التي ضحّت بكل شيء من أجلنا؟
أجاب ياسين:
– في رسالتها، ذكرت أنها أخفت أشياء أخرى قرب حائل. ربما إذا عثرنا على ذلك المكان سنجد الإجابات.
البحث عن الحقيقة
بدأت رحلة جديدة. قضى الإخوة أسابيع في منطقة حائل يسألون كبار السن عن امرأة غريبة عاشت مع ثلاثة أطفال في الثمانينات.
كان معظم الناس ينظرون إليهم بريبة؛ فقصة الخادمة "الشريرة" فوزية ما زالت محفورة في ذاكرة الأجيال كحكاية مخيفة.
لكن في قرية صغيرة تبعد ثمانين كيلومتراً جنوب حائل، التقوا بعجوز يُدعى سالم البدراني. حين ذكروا اسم فوزية تغيّر وجهه العجوز وامتلأت عيناه بدموع الذكريات.
قال بصوت مرتجف:
– فوزية... آه يا فوزية الطيبة! لم تكن شريرة كما قالوا. لقد كانت أماً أكثر من أي أم حقيقية رأيتها في حياتي.
جلس الإخوة حوله بقلوب تخفق من الترقب. سأله ياسين بلهفة:
– أين عاشت؟ هل تعرف مكانها؟
ابتسم سالم ابتسامة حزينة وأشار نحو الأفق:
– في كهف صخري قرب وادي الرمة، على بعد عشرة كيلومترات من هنا. كانت تأتي للقرية مرة كل شهر لتشتري الطعام والدواء، ومعها ثلاثة أطفال كالأقمار... مؤدبون، يتحدثون العربية الفصحى كأنهم أبناء أمراء.
سأل مازن بصوت مرتجف:
– وماذا حدث لها؟
أجاب سالم بحزن:
– في عام 1983 جاءت وحيدة، تبكي بحرقة وملابسها ممزقة وعليها آثار الضرب. قالت إن رجالاً قساة القلوب اكتشفوا مخبأها، ففرّقت الأطفال لتُبعدهم عن الخطر. عاشت وحيدة في الكهف سنوات، حتى عام 1995... حين ماتت بالتهاب رئوي في شتاء قارس. وجدناها بعد ثلاثة أيام متجمدة من البرد. دفناها في مقبرة القرية، لكننا كتبنا على قبرها: امرأة بلا هوية.
شعر الإخوة الثلاثة بطعنة في قلوبهم. المرأة التي ضحّت بكل شيء من أجلهم، دُفنت بلا اسم يخلد ذكراها.
الكهف
قال ياسين بصوت مختنق:
– هل يمكنك أن تأخذنا إلى الكهف؟
قادهم سالم عبر طريق ترابي وعرٍ بين التلال والأودية. ومع غروب الشمس وصلوا إلى فتحة صغيرة في جبل صخري، مخبأة بين أشجار الطلح والسدر.
قال العجوز:
– هنا... هنا عاشت فوزية معكم لسنوات.
دخل الإخوة والقلوب تخفق بعنف. الكهف كان أكبر مما توقعوا، مقسماً إلى غرف طبيعية.
في الغرفة الأولى وجدوا بقايا موقد حجري وأحجاراً مرتبة كمقاعد. في الغرفة الثانية، فراشاً صغيراً من الأغصان الجافة، وبجانبه ثلاث قطع قماش صغيرة كوسائد.
فجأة صرخ مازن:
– انظروا هنا!
كان يشير إلى نقوش على الجدار الصخري: ثلاث شجيرات متجاورة، وتحتها أسماء: ياسين – سمير – مازن.
وبجانبها نقوش أخرى: قلوب صغيرة، وكلمات عربية بسيطة:
"أحبكم – احموا بعضكم – لا تنسوا فوزية".
انفجر الإخوة الثلاثة بالبكاء، بلا خجل
كانوا يقفون في المكان الذي شهد طفولتهم الأولى، المكان الذي احتضن خطواتهم الصغيرة وذكرياتهم الأولى، المكان الذي حفظ قصة امرأة عظيمة ضحت بكل شيء من أجلهم.
في زاوية مظلمة من الكهف، لفت انتباههم صندوق خشبي صغير، مدفون تحت طبقة من التراب والأوراق الجافة. اقتربوا منه بحذر، وأزاحوا التراب عن غطائه، ثم فتحوه ببطء. ما وجدوه في داخله كان يفوق توقعاتهم، ويحمل من المشاعر ما لا يوصف.
في الصندوق، وُجدت ثلاث قطع قماش صغيرة كانت تُستخدم كحفاضات، صُنعت بعناية من أقمشة ملونة وجميلة. كما وجدوا ثلاث قلادات صغيرة مصنوعة من الخرز الملوّن والخيوط الذهبية. وإلى جانبها مجموعة من الألعاب البسيطة المصنوعة من الخشب والحجر. لكن المفاجأة الأكبر كانت في قاع الصندوق: مفكرة صغيرة، ملفوفة بقطعة قماش مشمّع لحمايتها من الرطوبة.
كانت المفكرة مليئة بكتابات فوزية، كلمات متدفقة من قلب أم محبّة، كتبتها صفحة تلو أخرى: عن الليالي التي سهرت فيها تراقب نومهم، وعن خوفها عليهم من البرد والمرض، وعن فرحتها حين تعلموا النطق والمشي والقراءة. كتبت عن أحلامها لمستقبلهم، وعن صلواتها الطويلة لله أن يحفظهم ويرعاهم.
وفي الصفحة الأخيرة، كتبت فوزية كلماتها الأخيرة، وصيتها وصرختها الصامتة:
"اليوم أخذت أطفالي إلى أماكن آمنة. قلبي ينزف، لكنني أعلم أنني أفعل ما هو صحيح. لن أراهم مرة أخرى، ولكن هذا أفضل من أن يؤذيهم الأشرار. يا رب، اجعلهم رجالاً صالحين، واجعلهم يلتقون يوماً ما ويعرفون أنهم إخوة. واجعلهم يسامحون الدنيا التي جعلتني أبدو شريرة بينما كنت أحميهم. هذه وصيتي، وهذا دعائي."
قضى الإخوة الثلاثة تلك الليلة في الكهف يتحدثون ويتذكرون، يضحكون ويبكون معاً. ولأول مرة منذ ثمانيةٍ وثلاثين عاماً، شعروا بأنهم استعادوا جزءاً مفقوداً من أرواحهم.
وفي الصباح، اتخذوا قراراً واضحاً: أول ما سيفعلونه هو تكريم ذكرى فوزية. ذهبوا إلى مقبرة القرية، حيث وجدوا قبرها البسيط الذي لم يحمل سوى حجر صغير كتب عليه: "امرأة بلا هوية". اجتمعوا على قلب واحد، وجمعوا أموالهم ليشتروا شاهداً من الرخام الأبيض، نقشوا عليه:
"فوزية بنت عبدالله، الأم التي أحبت بصمت. توفيت عام 1995. رحمها الله وأسكنها فسيح جناته."
نظموا مراسم دفن رمزية، ودعوا إليها أهل القرية والمنطقة. حضر أكثر من مئتي شخص، جميعهم سمعوا القصة الحقيقية التي كشفها الإخوة الثلاثة. وقف ياسين إماماً للصلاة، وألقى خطبة مؤثرة عن المرأة التي ظُلمت من المجتمع بينما كانت تحمي الأبرياء. قال بصوت متهدّج والدموع تنهمر على خديه:
"هذه المرأة لم تكن لصّة ولا خاطفة... كانت ملاكاً أرسله الله ليحمي ثلاثة أطفال من مصير أسود. كانت أماً أعظم من كل أم، وبطلة أعظم من كل بطل. واليوم، بعد سبعة وعشرين عاماً على وفاتها، نقول لها: شكراً يا فوزية، لأنك أحببتنا، شكراً لأنك ضحيت بكل شيء من أجلنا. وندعو الله أن يغفر لنا ولمجتمعنا الذي أساء فهمك وظلمك."
وبينما كان الإخوة يقفون أمام قبر المرأة التي أنقذتهم، كان هناك رجل يراقب من بعيد... خالد، الرجل الذي دبر المؤامرة كلها قبل ثمانيةٍ وثلاثين عاماً. صار الآن عجوزاً في الثمانين من عمره، يجلس على كرسي متحرك. وصلته الأخبار عمّا يحدث في حائل من خلال أحد أقاربه. ولأول مرة منذ عقود طويلة، شعر بالخوف... خوف من أن الحقيقة بدأت تطفو على السطح، وأن الماضي الذي دفنه عميقاً يعود ليطارده في أواخر أيامه.
بعد انتهاء مراسم دفن فوزية، عادت الحياة لتأخذ مجراها بالنسبة للإخوة الثلاثة. لكن شيئاً جوهرياً تغيّر في قلوبهم إلى الأبد. لم يعودوا ثلاثة رجال منفصلين يعيشون حياة متباعدة، بل صاروا عائلة حقيقية مترابطة بخيوط الدم والذكريات المستردة والحب الذي اكتشفوه من جديد. صاروا يتصلون يومياً، يتزاورون كل أسبوع، ويخططون لمستقبل مشترك، بعد أن ضاع منهم ثمانيةٌ وثلاثون عاماً بعيدين عن بعض.
لكن، في أعماق قلوبهم، ظل هناك جرح لم يلتئم. ظل شعور أن المهمة لم تكتمل، وأن الحقيقة لم تُكشف للعالم كاملة. فالقصة الحقيقية لفوزية ما زالت مجهولة لمعظم الناس، وخالد، الرجل الذي دمّر طفولتهم وحياة تلك المرأة الطاهرة، ما زال حراً طليقاً، يعيش في قصره الفاخر، دون أن يواجه العقاب على جرائمه.
انتظرونا في الجزء الثالث والاخير من القصه .
Leave a comment
Your email address will not be published. Required fields are marked *