ما أجمل النهايات حين تكون نصرةً وإعلانًا للحقيقة، على مسمعٍ ومرأى من كان سببًا في جريمةٍ لو وقعت لكانت أقسى من الموت. في تكملة هذه القصة سنبحر بحروفٍ صادقةٍ نابعةٍ من القلب، من أفواه المظلومين الذين أحاطتهم عناية الله، فنصرهم بعد ثلاثة عقود من الزمن، ومعهم الاعتراف الذي لم يكن في الحسبان.
أحداثٌ مشوّقة ومثيرة، ورحمةٌ ومغفرةٌ لروحٍ أحبّت من قلبها، وصدقت وأخلصت، فنصرها ربها حتى بعد وفاتها، دون اجتهادٍ منها.
اليكم باقي القصه….
في إحدى ليالي شهر يونيو الحارة، كان ياسين يجلس في مكتبه الصغير في بيته بالطائف، يحضّر خطبة الجمعة القادمة. فجأةً خطرت له فكرة كلمعة برق:
لماذا لا يحكي قصة فوزية في خطبة الجمعة؟
لماذا لا يستغل منبر المسجد ليصحح التاريخ المشوَّه ويعيد الاعتبار للمرأة التي ظلمت لعقود طويلة؟
لكن ياسين كان يعلم أن الأمر خطير؛ فالحديث المباشر عن فوزية والكشف عن هويتها قد يجلب عليه نقمة خالد وعائلة آل الرحمن، الذين ما زالوا أقوياء وذوي نفوذ، وقد يحاولون إسكات صوته بالقوة إذا علموا بما يخطط له.
لذلك قرر أن يكون ذكياً وماكراً: سيحكي القصة في شكل رمزي، عن العدالة والظلم والأمومة، دون ذكر أسماء.
في جمعة مباركة من شهر يونيو، وقف ياسين على منبر جامع الطائف الكبير أمام أكثر من ألف مصلٍّ.
بدأ صوته هادئاً، ثم أخذ يعلو تدريجياً، حتى أصبح قوياً مؤثراً وهو يروي قصة امرأة بسيطة أنقذت ثلاثة أطفال من مصير مظلم.
"أيها الإخوة، إخوة المؤمنين..."
هكذا استهل خطبته، وصوته يرتجف قليلاً من الانفعال.
"أريد أن أحدثكم اليوم عن الأمومة الحقيقية، عن امرأة أحبت أطفالاً ليسوا من صلبها، أكثر من حبها لنفسها.
أريد أن أحدثكم عن العدالة التي قد تتأخر، لكنها في النهاية تأتي بإذن الله."
ثم بدأ يروي القصة كاملة:
عن الخادمة التي اكتشفت مؤامرة شيطانية لبيع الأطفال، وعن شجاعتها في إنقاذهم وهروبها بهم إلى الصحراء.
حكى عن السنوات التي قضتها في كهف بعيد، تربيهم وتحبهم، وعن تضحيتهـا العظمى عندما فرقت بينهم لتحميهم من الأشرار.
وتحدث عن الظلم الذي لحق بها، وكيف لُعن اسمها لعقود، بينما كانت في الحقيقة بطلة وليست مجرمة.
كان صوته يعلو ويهبط مع مدّ وجزر المشاعر، والمصلون يجلسون في صمت تام، مأخوذين بروعة السرد وصدقه.
وعندما وصل إلى نهاية القصة، كانت الدموع تترقرق في عيون الكثيرين.
قال ياسين بصوت متهدج:
"هذه المرأة، أيها الإخوة، تذكرنا بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:
الوالدة أولى بالبر وإن لم تلد.
هذه امرأة أحبت أطفالاً لم تلدهم، وضحت بكل شيء من أجلهم، وماتت وحيدة منبوذة بينما كان العالم يلعن اسمها. لكن الله يعلم حقيقة الأمور، والله لا يضيع أجر المحسنين."
ثم ختم خطبته بكلمات بليغة:
"أقول لكم يا إخوة، إن من يُلعنون في الدنيا قد يكونون من أولياء الله في الآخرة، ومن يُمدحون ويُعظمون قد يكونون من أشرّ الخلق عند الله.
فلا تحكموا على الناس بما تسمعونه من الشائعات والأقاويل، بل احكموا عليهم بأعمالهم وما تشهدونه بأعينكم."
بعد انتهاء الصلاة، التف حول ياسين عشرات المصلين يسألونه عن تفاصيل أكثر عن تلك القصة المؤثرة.
كان من بينهم صحفي شاب يعمل في إحدى الصحف المحلية، طلب من ياسين إجراء مقابلة صحفية لنشر القصة.
وسأله الصحفي بفضول:
— "لكن يا شيخ ياسين، هل هذه قصة حقيقية أم مجرد مثل رمزي؟"
ابتسم ياسين ابتسامة غامضة وقال:
— "الحقيقة يا أخي، أقوى وأعمق من أي رواية يمكن أن يخترعها العقل البشري."
وبينما كان الناس يتفرقون بعد الصلاة، ظل ياسين يراقبهم بصمت، يدرك أن ما فعله قد يكون الشرارة الأولى لكشف الحقيقة.
في زاوية بعيدة من الصفوف الأخيرة في المسجد، جلست امرأة كبيرة في السن، ترتدي عباءة سوداء ونقابًا، تبكي بصمت. اقترب منها ياسين بحذر، وقال بصوت خافت:
– أختي الكريمة، هل أنتِ بخير؟ هل يمكنني مساعدتك في شيء؟
رفعت المرأة رأسها ببطء، وعيناها محمرتان من كثرة البكاء. كان في نظراتها حزن عميق، متراكم من سنوات طويلة من الفقد والألم. تمتمت بصوت مرتجف مكسور:
– يا شيخ… القصة التي رويتها اليوم أعرفها جيدًا… أعرفها لأنني عشتها.
ارتجف جسد ياسين، وسرت قشعريرة في عروقه. سألها بدهشة:
– ماذا تقصدين؟
قالت المرأة وهي تضع يدها على صدرها:
– أنا ليلى… أنا أم التوائم الثلاثة الذين اختطفتهم فوزية عام 1979… أنا أم الأطفال الذين ضحت فوزية بحياتها من أجلهم.
تجمد ياسين في مكانه، وكأن روحه غادرت جسده للحظة. هذه المرأة… هي أمه الحقيقية! المرأة التي حملته تسعة أشهر في رحمها، وأرضعته من صدرها، ثم عاشت ثمانية وثلاثين عامًا تبكي فقده هو وإخوته.
ببطء نزع ياسين غطاء رأسه، وكشف عن وجهه بالكامل. وما إن رأت ليلى ملامحه، وخاصة تلك العلامة البنية الصغيرة على جانب رقبته، حتى انهارت تمامًا. تلك العلامة التي كانت تقبّلها كل ليلة حين كان رضيعًا.
صرخت بأعلى صوتها وهي تهرول نحوه:
– ياسين… يا بني! أنت ابني الذي فقدته منذ ثمانية وثلاثين عامًا!
احتضنته بقوة، وبكيا معًا دون خجل أمام الناس. كان المشهد مؤثرًا إلى درجة أن كل من في المسجد لم يتمالك دموعه. أم تحتضن ابنها بعد فراق عقود، وابن يحتضن أمًا ظن أنها ماتت منذ طفولته.
همس ياسين في أذنها، والدموع ما تزال تسيل على وجهه:
– كيف عرفتِ أنني ابنك؟
ابتسمت وسط دموعها، وقالت:
– على رقبتك يا حبيبي… كنت أقبّلها كل ليلة وأنت رضيع. وصوتك… يشبه صوت والدك رحمه الله. وعيناك… هما عينيّ عندما كنت في عمرك.
وفجأة أمسكت ليلى بيديه، وقد امتزج الأمل بالخوف في نظراتها:
– ياسين… يا بني، أين إخوتك؟ أين سمير ومازن؟ هل ما زالا على قيد الحياة؟
ابتسم ياسين ابتسامة ملأها الفرح والحب:
– نعم يا أمي، إخوتي بخير… لقد وجدنا بعضنا أخيرًا، وغدًا إن شاء الله ستلتقين بهم.
كان المشهد في جامع الطائف معجزة حقيقية. أحد الصحفيين الشباب التقط صورًا ومقاطع من اللقاء، وخلال ساعات فقط، انتشرت القصة كالنار في الهشيم عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي:
"الأم تلتقي بابنها المفقود بعد 38 عامًا في مسجد الطائف".
وبسرعة، أصبحت القصة حديث المملكة بأسرها. الصحف كتبت مقالات عن قوة الحدس الأمومي، والبرامج التلفزيونية استضافت خبراء علم النفس والاجتماع للحديث عن أثر الفراق الطويل. لكن لم يكن أحد يتوقع أن هذه القصة ستفتح بابًا خطيرًا…
بدأ الناس يتذكرون قصة فوزية – الخادمة التي اتهمت بخطف التوائم عام 1979 – وطرحوا أسئلة صادمة: إذا كانت القصة الجديدة حقيقية، فهل كانت فوزية مجرمة حقًا؟ أم أنها بريئة وظُلمت ظلمًا فادحًا؟
في قصر فخم، جلس خالد ، شيخ في الثمانين، على كرسيه المتحرك، يتابع الأخبار بعينين غارقتين في الغضب والرعب. كان جسده الهزيل قد خانه بعد جلطات متتالية، لكنه ما زال يتمتع بوعي حاد. ومنذ أسبوع وهو في حالة هياج، يصرخ ويأمر محاميه بإيقاف "هذا الهراء"، كما يسميه.
لكن محاميه الدكتور عبد الله الحكيم – رجل حكيم خبر أسرار العائلة لأكثر من عشرين عامًا – واجهه بصرامة:
– سيدي خالد، الوضع خرج عن السيطرة. الناس أعادوا فتح ملف فوزية. لدينا خياران: إما أن نصمت ونأمل أن تهدأ العاصفة…
قاطعه خالد بصوت أجش مرتجف:
– أو ماذا؟
صمت عبد الله قليلًا ثم قال:
– أو أن تعترف بالحقيقة قبل أن يكشفها الآخرون.
ساد صمت ثقيل. لم يُسمع سوى صوت أنفاس خالد المتقطعة. كان يعرف أن محاميه محق. الحقيقة تطفو، ولن يستطيع دفنها أكثر. وبعد أسبوعين من صراع داخلي، اتخذ خالد قرارًا صادمًا.
طلب من محاميه الاتصال بالصحفي الشهير فهد المالكي مراسل قناة الإخبارية، ودعوته سرًا إلى القصر. قال بصوت ضعيف لكنه حاسم:
– أريد أن أسجل اعترافًا بالفيديو. لا أريد أن ألقى الله وهذا الحمل على ضميري. لقد عاشت فوزية ملعونة لسبعة وثلاثين عامًا، بينما كانت أطهر من ماء المطر.
وفي مساء خميس ماطر من يوليو، وصل فهد المالكي متخفيًا إلى القصر. صُدم من حالة خالد، الذي بدا كهيكل رجلٍ كان في يوم من الأيام أحد أقوى رجال المملكة.
قال خالد بصوت واهن:
– أريد تسجيل اعترافي… لكن بشرط، لا تُظهر وجهي. صوّر يدي، أو ظهري، أو أي شيء، لكن ليس وجهي.
وافق فهد، وجهّز معداته. جلس خالد على كرسيه أمام نافذة كبيرة تطل على حديقة القصر، والضوء الذهبي للشمس يخترق الغيوم. أخذ نفسًا عميقًا، وبدأ يتحدث بصوت مرتجف… لكنه واضح.
اسمي خالد وأنا أتحدث إليكم في شهر يوليو من عام 2017، وقد بلغت من العمر ثمانين عاماً. ما سأقوله الآن هو الحقيقة الكاملة عمّا جرى في نوفمبر 1979، عن التوائم الثلاثة، وعن المرأة الطيبة التي دمّرت سمعتها بسبب جشعي وطمعي.
توقف خالد ليلتقط أنفاسه، ثم تابع بصوت مرتجف:
في تلك السنة كنت غارقاً في ديون ضخمة نتيجة مضاربات فاشلة في البورصة العالمية. كنت مديناً لمجموعة من رجال أعمال أجانب بأكثر من خمسة ملايين دولار، وكانوا يهددونني بالقتل إن لم أسدد الدين خلال شهرين.
في تلك الأيام كانت هناك شبكة دولية لتهريب الأطفال بين الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا. كانوا يشترون الأطفال من العائلات الفقيرة أو الأيتام، ثم يبيعونهم لعائلات غنية في الغرب تحت غطاء "التبني الإنساني". كل طفل كان يباع بمليون دولار أو أكثر.
عندما وُلد توأمي الثلاثة في بيتنا، رأيت فيهم حلاً لمشكلتي. كانوا أطفالاً أصحاء وجميلين، سيجلبون سعراً مرتفعاً في السوق السوداء. اتصلت بالشبكة، وعرضت عليهم الصفقة: ثلاثة أطفال مقابل ثلاثة ملايين دولار.
هنا توقفت دموع خالد تتساقط على وجنتيه المجعدتين، ثم قال:
لكن فوزية، الخادمة الطيبة، اكتشفت خطتي بالصدفة. رأتني أخفي النقود التي دفعها المشترون كعربون تحت مهد الأطفال، وسمعت محادثاتي مع رجال الشبكة. في تلك الليلة هربت بالأطفال لتنقذهم من مصير أسود.
أما أنا، فقد رويت القصة ضدها، ورشوت رجال الشرطة ليصدقوا روايتي، ودَفعت للصحف لنشر أكاذيب عنها، لتبدو وكأنها هي المجرمة، بينما كانت في الحقيقة البطلة الوحيدة في هذه القصة القذرة.
ثم تابع بصوت منكسر:
"فوزية لم تكن خاطفة، بل كانت منقذة. لم تكن مجرمة، بل كانت ملاكاً. وأنا… أنا المجرم الحقيقي. أنا من دمّرت حياة عائلة كاملة من أجل المال الملعون، وأنا من جعل امرأة طيبة تموت منبوذة ملعونة، بينما كان يجب أن تُرفع في السماء مع الشهداء."
عندما انتهى التسجيل، كان خالد منهكاً تماماً، يبكي كطفل صغير. بينما كان فهد ، الصحفي الذي صوّر الاعتراف، يقف مذهولاً من قوته، مدركاً أنه سجل اعترافاً سيُغيّر مجرى التاريخ.
في غضون ساعات قليلة، انكشف القناع، وعرف الجميع هوية الرجل. وسائل التواصل الاجتماعي اشتعلت بالهاشتاقات: فوزية_البطلة، العدالة_لفوزية،
كلنا_نطلب_الاعتذار_لفوزية.
الناس أعادوا نشر القصة، يروون كيف تأثروا باعتراف خالد، وكيف كانت فوزية ضحية ظلم عظيم.
ندم جماعي
في الأيام التالية، بدأت أصوات الاعتذار تتوالى.
أول من بادر كان الصحفي المتقاعد محمد ، الذي كتب في الثمانينات مقالات نارية يصف فيها فوزية بـ"الشيطانة". كتب مقالة جديدة مؤثرة قال فيها:
"أكتب هذه الكلمات وقلبي ينزف ندماً. لقد كنت من الذين شوّهوا سمعة امرأة بريئة، بل بطلة حقيقية. أطلب الصفح من الله، ومن فوزية، ومن أبنائها الثلاثة الذين وجدوا بعضهم أخيراً."
بعده، توالت الاعترافات من سياسيين ورجال أمن متقاعدين، قالوا إنهم كانوا يشكّون في الرواية الرسمية منذ البداية، لكنهم لم يجرؤوا على مخالفة الأوامر العليا في ذلك الوقت.
لقاء العائلة
في تلك الأثناء، كان الإخوة الثلاثة ياسين، وسمير، ومازن يعيشون أجمل أيام حياتهم مع والدتهم ليلى، التي عاشت ثمانية وثلاثين عاماً في عذاب الفقد. كانت تستيقظ كل صباح لا تصدق أن أبناءها عادوا إليها.
تحكي لهم قصص طفولتهم الضائعة، تبكي فرحاً كلما نادوها "أمي"، وتستعيد معهم ذكريات اليوم الذي وُلدوا فيه قائلة:
"كان يوماً بارداً من نوفمبر، والسماء تمطر خيراً… ثم بعد دقائق معدودة، جئتم جميعاً في اللحظة نفسها، وكأنكم أعلنتم للعالم أنكم ستبقون معاً إلى الأبد."
كانت زوجة ياسين خديجة، وزوجة سمير وأطفالهما، يجتمعون كل مساء معاً، يصنعون دفئاً لم يعرفه الإخوة من قبل. حتى مازن، الذي لم يتزوج بعد، كان يقول: "لأول مرة في حياتي، لم أعد أشعر بالوحدة."
لكن شيئاً واحداً كان ينقص سعادتهم: تكريم ذكرى فوزية علناً، ورد اعتبارها أمام الناس.
حفل التكريم
في اجتماع عائلي مساء الجمعة، قال ياسين:
"أريد أن ننظم مراسم تكريم كبيرة لفوزية هنا في الطائف، ونفتحها للجمهور. أريد أن يعرف العالم من هي فوزية حقاً."
وافق الجميع بحماس، وقرروا أن يكون الحفل في نفس المسجد الذي شهد أول لقاء لهم بعد الفراق الطويل.
انتشر الخبر سريعاً عبر الإعلام ومواقع التواصل، وكانت الاستجابة أكبر من أي توقع.
وفي يوم السبت 15 يوليو 2017، تدفق أكثر من عشرة آلاف شخص إلى الطائف من مختلف أنحاء المملكة ودول الخليج. كانوا من كل الطبقات: أطباء، مهندسون، عمال، طلاب، أمهات، شيوخ، جاءوا جميعاً ليقولوا كلمة واحدة:
"نعتذر لروح فوزية، ونكرم بطولتها."
هكذا، بعد ثمانية وثلاثين عاماً من الظلم، تحولت فوزية من "مجرمة ملعونة" في أعين الناس، إلى بطلة خالدة تُروى قصتها في كل بيت
أُقيمت المراسم في الساحة الكبيرة أمام الجامع، وقد تزينت بالورود البيضاء والياسمين، تفوح منها رائحة الطهر والبراءة التي كانت ترمز لروح فوزية النقية. وعلى منصة كبيرة وُضعت صورة فوزية الوحيدة، التي عُثر عليها بين أوراق قديمة لإدارة البيوت في جدة، وحولها كُتبت آيات قرآنية عن الصبر والثواب العظيم.
بدأت المراسم بتلاوة عطرة من القرآن الكريم، ثم وقف ياسين ليلقي الكلمة الرئيسية. كان يرتدي ثوباً أبيض ناصعاً، وعيناه تشعان بالحزن والفخر في آن واحد
قال بصوت متهدج:
«أيها الناس الكرام... نجتمع اليوم لا لنحتفل، بل لنعتذر. نعتذر لامرأة عظيمة، ماتت وهي تحمل في قلبها حب ثلاثة أطفال أكثر من حبها لنفسها. امرأة عاشت في المنفى والوحدة والفقر، لا لأنها ارتكبت شراً، بل لأنها فعلت خيراً عظيماً غطى عليه الشر.
فوزية لم تكن خادمة عادية... كانت أماً بلا أطفال، أرسلها الله لتنقذ أطفالاً بلا أم حقيقية. وعندما اختارت بين سلامتها الشخصية وبين حمايتنا... اختارتنا دون تردد».
ثم دعا سميرة ومازن وليلى للصعود معه إلى المنصة، وقال بصوت عالٍ:
«نحن أطفال فوزية، أطفال المرأة التي أحبّتْنا في صمت. نقول اليوم أمام الله وأمام الناس جميعاً: نحن فخورون بأن نكون أبناءها بالحب والتربية، كما نحن فخورون بأن نكون أبناء ليلى بالدم والولادة. لن ننسى أبداً أن لنا أماً ولدتنا، وأماً أنقذتنا».
وفي نهاية المراسم، أُعلن عن إنشاء مؤسسة فوزية الخيرية لحماية الأطفال، التي ستعمل على رعاية الأطفال المعرضين للخطر، ودعم الأمهات اللواتي يربين أطفالاً ليسوا من أصلابهن. كما أُعلن عن إطلاق اسم فوزية على أحد شوارع الطائف الرئيسية، وإقامة نصب تذكاري لها في إحدى الحدائق العامة.
وفي ختام ذلك اليوم المؤثر، وقف الآلاف أمام قبر فوزية في مقبرة حائل، حيث نُقش على شاهد القبر بحروف ذهبية:
«ترقد هنا فوزية بنت عبد الله... الأم التي أحبّت أطفالاً لم تلدهم أكثر من حياتها... الشهيدة التي ماتت مظلومة وتبعث –إن شاء الله– مكرمة. ماتت عام 1995، وعادت إلى الحياة في قلوب الناس عام 2017».
وتحت هذه الكلمات، نُقشت عبارتها الأخيرة من مذكراتها:
«إن كان حب أطفال ليسوا لك جريمة... فليتني أكون أسعد مجرمة على وجه الأرض».
وبينما كانت الشمس تغرب خلف التلال، ودموع الآلاف تنهمر على التراب الذي يحتضن جسد المرأة العظيمة، همس ياسين بكلمات الوداع الأخيرة:
«وداعاً يا فوزية... وداعاً يا أمي الثانية. سامحينا لأننا تأخرنا في قول الحقيقة، ولكننا نعدك أن اسمك سيبقى مرفوعاً في السماء مع الأبرار».
وهكذا انتهت قصة فوزية... المرأة التي علّمتنا أن الحب الحقيقي لا يحتاج إلى رابطة دم، وأن الأمومة الحقيقية تُقاس بالتضحية، لا بالولادة لم تكن فوزية أمًّا بالولادة، لكنها عاشت سبعةً وعشرين عامًا تحمل في قلبها ما يفوق الأمومة صدقًا ووفاءً. فارقت أطفالها وهي مطمئنة، لأنها أنقذتهم من مصيرٍ مظلم، ودفعت ثمن ذلك عمرًا من الوحدة واللعنات رحلت وحيدة، محطَّمة الصورة أمام الناس، لكن قلبها ظل نابضًا بحب ثلاثة رجال لم تعرف يومًا أنهم كبروا ليصبحوا أطباء وأئمة ومهندسين، رجالًا صالحين كما كانت ترفع أسمائهم في دعائها كل ليلة
واليوم، بعدما خرجت قصتها من بين طيات النسيان لتصل إلى كل بيتٍ عربي، نتذكر أن الحقيقة لا تموت مهما طالت عليها السنين، وأن العدالة قد تتأخر، لكنها تأتي حين يشاء الله أن تأتي.
نسأل الله أن يجعلنا من أنصار الحق، وأن يثبتنا على طريق العدل والرحمة، وأن يرزقنا قلوبًا صادقة نقية كقلب فوزية.
Leave a comment
Your email address will not be published. Required fields are marked *