`
لعبة تحولت إلى مأساة

لعبة تحولت إلى مأساة

حين يتحول اللعب إلى مأساة… والعفو إلى منقذ للقلوب

 

قبل يومين، تلقينا نبأ وفاة شاب في عمر الزهور، شاب لم يعرف طعم البهجة ولا لذة السعادة، فقد أفنته الأمراض التي تراكمت على جسده الهزيل منذ عشرين عامًا، بسبب حادثة مأساوية وقعت في طفولته.

إليكم القصة…

كان طفلًا صغيرًا، لم يبلغ سن الرشد بعد. يجلس مع رفيقه وولد جيرانهم يتبادلون الضحكات واللعب البريء. ثم خطرت على بالهم لعبة خطيرة بالسلاح!
قرروا تفريغ السلاح تمامًا من الرصاص، وبدأوا بتوجيهه نحو بعضهم وكأنهم في لعبة. الضربة الأولى مرّت بسلام، لكن في الضربة الثانية خرجت رصاصة من باطن السلاح لتستقر في رأس صديقه، وتُزهق روحه فورًا.

الطفل الجاني أصيب بصدمة شديدة، احتضن صديقه وجسده يرتجف ويداه ملوثتان بدم أعز أصدقائه، والدموع تنهمر من عينيه. حضر الجيران، فزعين، مذهولين، لكن خوفهم لم يكن بقدر ما سكن قلب ذلك الطفل المسكين.

تحوّلت اللحظات من ضحك وبراءة إلى فاجعة وبكاء وصراخ. حضرت الشرطة، وقُبض على الطفل، وتم التحقيق معه، فاعترف أمام الجميع أنها كانت "لعبة فقط"، ولم تكن لديه أي نية للقتل. لكن ذلك لم يشفع له، وتم حبسه بين المجرمين.

تدهورت حالته النفسية بسرعة، لم يعد يأكل، ولا ينام، منظر الدم لا يفارقه، وصوت الطلقة يلاحقه. حاول أهله جاهدين إقناع أولياء الدم بالتنازل والإفراج عنه، لكن الطرف الآخر رفض كل الوساطات.

حتى جاء اليوم الذي لم يعد جسد الطفل الصغير قادرًا على التحمّل… فسقط مغشيًا عليه في السجن. تم استدعاء الطبيب الذي كتب تقريرًا يفيد بأن حالته خطيرة ويجب إسعافه فورًا.

تدخل أولياء الدم، ووافقوا أخيرًا على التنازل، مقابل مبلغ مالي كبير، وتم إخراجه للعلاج… ولكن بعد فوات الأوان.

لم يستعد الطفل عافيته أبدًا، وظل يصارع المرض لأكثر من عشرين عامًا، حتى وافته المنية – رحمة الله عليه.


 رسالة إلى أولياء الأمور:

لا تضعوا السلاح في متناول أيدي أطفالكم. إنهم أمانة بين أيديكم، وأنتم مسؤولون عنهم أمام الله. لا ذنب لهؤلاء الأطفال فيما حدث… بل المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الكبار.


 رسالة للمجتمع:

ما أعظم العفو والصفح، خاصة عندما يكون المخطئ طفلًا لم يبلغ سن الرشد. ماذا لو أنك عفوت عنه؟ ماذا لو احتسبت الأجر عند الله؟

أنت لم تخسر ابنك بسبب عداوة، ولا كان هناك نية للقتل… إنها لعبة بريئة تحوّلت إلى كارثة بسبب غياب الرقابة. والقرآن الكريم لا يوجب القصاص في القتل الخطأ، بل يدعو إلى العفو.


﴿ وَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾

(سورة الشورى: 40)

في دروب الحياة، قد تُظلم، وقد تُؤذى، وربما يُساء إليك من أقرب الناس… وقد تميل نفسك إلى الانتقام والثأر.
لكن، هناك باب لا يطرقه إلا الكبار… إنه باب العفو والإصلاح.

الله عز وجل يقول:

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾
(الشورى: 40)

يا لها من آية عظيمة… تبدأ بإثبات الحق: الرد بالمثل.
لكنها ترتقي بالإنسان إلى مقام أعظم: العفو والإصلاح.


 العفو ليس ضعفًا

قد يظن البعض أن العفو ذل وهوان، ولكن العفو قوة نفس، وسمو أخلاق، ورفعة عند الله.

قال رسول الله ﷺ:

"ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا"
(رواه مسلم)

أنت لا تخسر عندما تعفو… بل تربح:

  • عزًا في الدنيا
  • أجرًا في الآخرة
  • وسكينة في القلب

 تأمل في هذه النماذج العظيمة:

يوسف عليه السلام

أُلقي في البئر، وبِيع كعبد، وسُجن ظلمًا… ثم أصبح عزيز مصر.
وحين تمكن من إخوته، قال لهم:

﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾

ما أروع هذا القلب… غُدر به فعفا، وظُلم فسامح.

 رسول الله ﷺ في فتح مكة

عاد لمكة بعد سنوات من الأذى والطرد، وكان بإمكانه الانتقام… لكنه قال:

"اذهبوا فأنتم الطلقاء"

فدخل الناس في دين الله أفواجًا.

نماذج من الواقع

رأينا في زماننا آباء وأمهات فقدوا أبناءهم ظلماً، ومع ذلك وقفوا في المحكمة قائلين:
"لقد عفونا لوجه الله…"

فتحوّلت الجريمة إلى توبة، وتحولت القلوب من الغضب إلى الإيمان والسكينة.


 كيف تصل إلى مقام العفو؟

  1. احتسب الأجر: لا تنتظر من الناس شكرًا، فالأجر على الله.
  2. تذكّر عظمة العفو: الله يعفو عنك كل يوم… أفلا تعفو عن خلقه؟
  3. ادعُ لمن ظلمك: كما قال النبي ﷺ:

"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"

  1. اجعل نيتك الإصلاح: لا مجرد التنازل، بل محاولة إنهاء العداوة وإصلاح العلاقة.

 خاتمة دعوية:

يا من جُرحت، وظُلمت، وخانتك القلوب…

إذا استطعت أن تعفو، فافعل… فإن الله وعدك:

﴿ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾

وما عند الله…
خيرٌ، وأبقى، وأكرم.

 

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.