الحمد لله الذي بلغنا رمضان، ونسأله أن يعيننا على الصيام والقيام، وأن يجعلنا فيه من الفائزين بمغفرته ورضوانه. أما بعد:
لقد أظلنا شهرٌ عظيم، شهرٌ فضّله الله على سائر الشهور، وجعل فيه من الخيرات والبركات ما لا يوجد في غيره. إنه شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، حيث تصفد فيه الشياطين، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب الجحيم، وينادي منادٍ: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
إنه موسمٌ عظيم للطاعات، فرصةٌ لا تُعوّض لمراجعة النفس، وتطهير القلب، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فكم من نفسٍ كانت تنتظر رمضان فلم تدركه، وكم من عبدٍ دخل رمضان وهو في لهو وغفلة، فخرج منه دون أن يُكتب من الفائزين!
رمضان شهر عبادة لا شهر مسلسلات ولهو
لكن، مع كل هذه النفحات الربانية والعطايا الإلهية، هناك من يسعى جاهدًا لصرف الناس عن الخير، وإلهائهم عما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم. إن دعاة الفساد والشر قد استعدوا لهذا الشهر كما يستعد المؤمنون، ولكنهم لا يستعدون فيه بالعبادة والذكر، وإنما بإعداد المسلسلات الفاتنة، والبرامج الهابطة، والمغريات الملهية، التي تسرق الوقت وتبدد الروحانية، وتبعد المسلم عن مقاصد هذا الشهر الكريم.
كم من أوقاتٍ تضيع أمام الشاشات، وكم من لحظاتٍ ثمينة تُهدر في متابعة مشاهد لا تسمن ولا تغني من جوع! إن هذا الشهر ليس شهرًا لمتابعة الحلقات والمسلسلات، بل هو شهر قيام الليل، وتلاوة القرآن، والصدقات، والاعتكاف، وصلة الرحم، والاستغفار، والدعاء.
إن الله قد أعدّ لعباده في رمضان مغفرة عظيمة ورحمة واسعة، وفرصة لا تعوض للتوبة والإنابة، فكيف يفرط العاقل في هذا الكنز الإلهي وينشغل بما لا يعود عليه بالنفع؟ كيف يضيع المرء ليالي رمضان وهو يتنقل بين القنوات، في حين أن هناك ركعاتٍ قد ترفع درجته، وسجدةً قد تمحو ذنوبه، ودمعةً قد تكتب له بها مغفرةً لا يشقى بعدها أبدًا؟
القلوب متعبة والدروب مظلمة، فهل من عودة؟
لقد أصبحت القلوب مرهقة، والنفوس مثقلة، والذنوب تحاصر العبد من كل جانب، فهل هناك وقت أنسب من رمضان لمراجعة النفس، والتخلص من هذا الحمل الثقيل؟
نحن نعيش في زمن كثرت فيه الفتن، وسهل فيه الوقوع في الذنوب، فكيف يكون حالنا إن لم نغتنم رمضان؟ كيف نخرج منه دون أن نحقق التغيير الذي طالما تمنيناه؟
أيها الأحبة، إن ليالي رمضان قليلة، وسرعان ما تنقضي، وإن أيامه المباركة ما هي إلا محطات إيمانية لمن أراد أن يعود إلى ربه، لمن أراد أن يغسل قلبه من الذنوب، لمن أراد أن يُكتب من أهل الجنة. فلا تدعوا هذه الفرصة تضيع بين أيديكم، ولا تجعلوا من رمضان شهرًا يمر كما مرت الشهور السابقة دون تغيير.
بين الجنة والمساءلة لحظة
لما سمع عكاشة بن محصن أن سبعين ألفًا سيدخلون الجنة بغير حساب، أسرع فقال: "يا رسول الله، ادعُ الله أن أكون منهم"، فقال النبي ﷺ: "أنت منهم".
فقال آخر: "ادعُ الله أن أكون منهم"، فقال النبي ﷺ: "سبقك بها عكاشة".
وهكذا الأمور مع الله، تفرق فيها اللحظة، وتؤثر فيها التسبيحة، ويُقدم المرء أو يُؤخره دعوة أو دمعة!
أشد الناس ندمًا في الآخرة هم المهدرون لأعمارهم، حتى وإن دخلوا الجنة! بين الدرجة والدرجة في الجنة قراءة آية، وبينهما في العلو مسيرة خمسمائة عام!
رأيت صديقًا لا يكاد يوقف تحريك شفتيه ونحن جلوس نتكلم، لا يكاد يوقفهما عن التسبيح حتى انفض المجلس، فقمت وبي من الحسرة على نفسي ما الله به عليم...
اغتنموا رمضان.. لا تضيعوا الدقائق الثمينة
الأنفاس الذاكرة تورث الغرف العاطرة، ومهمل الحسنات يفرط في أعالي الدرجات... الأعمار تُحسب بالأنفاس، والجنة غراسها ذكرٌ لا يتعدى طرفة عين.
أيها المتأخرون، أفيقوا!
فوقفة ساعة يوم القيامة تذيب الجسم من حرها، فكيف بمن سيقف يوم القيامة كله؟!
عكاشة وأصحابه المبادرون يعيشون في الجنة قبل الواقفين بخمسين ألف سنة!
أوقفوا نزيف الأعمار، واذكروا الله قيامًا وقعودًا، في الطريق، في السيارة... اجعلوا دقائق أعماركم للاستغفار والتسبيح والحمد، فهي ترفع درجاتكم في الجنة.
وها هو رمضان تضاعف فيه الأعمال، فلا تفرّطوا في أيامه الثمينة.
سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
اللهم اجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم، ووفقنا لصيامه وقيامه إيمانًا واحتسابًا، واعتق رقابنا من النار، واكتب لنا فيه الرحمة والغفران.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
Leave a comment
Your email address will not be published. Required fields are marked *