`

الدونية الطبقية في المجتمع اليمني: تاريخها، مظاهرها، وآثارها

لطالما كانت التفرقة الاجتماعية والتمييز الطبقي إحدى القضايا العميقة في المجتمع اليمني، وهي ظاهرة ممتدة تعود جذورها إلى عصور قديمة. ساهمت عوامل تاريخية واجتماعية متعددة في تكريس هذه الفوارق، حيث تم تقسيم المجتمع إلى فئات اجتماعية لكل منها مكانتها ووظيفتها المحددة. ورغم محاولات التحديث والانفتاح، لا تزال بعض هذه التقاليد تُمارس بشكل مباشر أو غير مباشر، مما يساهم في استمرار المعاناة والظلم الاجتماعي.

الجذور التاريخية للتمييز الطبقي في اليمن

يرى بعض المؤرخين أن الطبقية في اليمن بدأت قبل دخول الإسلام، حيث يعود تاريخ بعض الفئات المهمشة إلى القرن السادس الميلادي. ومن بين هذه الفئات، نجد "المزاينة"، وهم فئة ارتبطت تاريخيًا بالفُرس الذين أرسلهم كسرى الأول لمساندة الملك اليمني سيف بن ذي يزن في طرد الأحباش من اليمن. وبعد استقرارهم في البلاد، شغل هؤلاء الفُرس مراكز اقتصادية مرموقة، لكنهم ظلوا يُنظر إليهم كطبقة منفصلة.

مع مرور الزمن، ترسخ هذا التمييز بشكل أعمق، خاصة خلال فترات حكم الأئمة، حيث لعب النظام الإمامي دورًا كبيرًا في تقسيم المجتمع إلى فئات متمايزة، مع منح امتيازات خاصة لبعض الفئات مقابل تهميش الأخرى.

الهرم الطبقي في المجتمع اليمني

تم تقسيم المجتمع اليمني إلى ثلاث طبقات رئيسية، لكل منها مكانتها ووظيفتها المحددة:

1- السادة (الهاشميون)

تعتبر هذه الفئة الأعلى في السلم الاجتماعي، وهم ينسبون أنفسهم إلى آل البيت. كانت لهم امتيازات خاصة، منها دراسة العلوم الدينية والقضاء والوساطة في النزاعات القبلية. لم يكن يُطلب منهم المشاركة في الحروب أو دفع الغرامات، بل كانوا يتمتعون بهيبة واحترام كبيرين. كانت كلمتهم تُحترم في المصالحات القبلية، وأحيانًا يكفي أن يقدم أحدهم خنجره المصنوع من الفضة والعقيق (المعروف بـ"التوزة") لإيقاف النزاعات.

2- القبائل

تمثل القبائل الفئة الأكبر في المجتمع اليمني، وهم رجال الحرب وحماة الأرض والعُرف. كان دورهم الأساسي يتمثل في الزراعة والرعي، كما كان يحق لهم التعليم. يحكم كل قبيلة شيخ يتمتع بصلاحيات واسعة، غير أن هذا المنصب لم يكن متاحًا للسادة أو للمهمشين مثل المزاينة.

3- المزاينة

تُعد هذه الفئة الأكثر تهميشًا، حيث اقتصر عملهم على الحِرف والخدمات، مثل الجزارة، الطهي في المناسبات، والحلاقة، بالإضافة إلى العزف والرقص في الأعراس. لم يكن يُسمح لهم بامتلاك الأراضي الزراعية، ولم يكن يُطلب منهم المشاركة في النزاعات القبلية، بل كانوا يُعتبرون مجرد خدم مقابل لقمة العيش. كما كان يُمنع عليهم الزواج من بنات القبائل أو السادة، ما جعلهم يعيشون في عزلة اجتماعية قسرية.

قصة علي: من شيخ إلى مزين

تجسد قصة علي واحدة من أكثر الصور المؤلمة للتمييز الطبقي في اليمن، حيث يظهر كيف يمكن لمجرد الانتماء إلى طبقة معينة أن يحدد مصير الإنسان بغض النظر عن سلوكه أو شخصيته.

طفولة علي وضياعه
علي، طفل في الخامسة من عمره، كان يرغب في مرافقة والده إلى حفل زفاف، غير أن والده رفض. حين غادر الأب، تبعه علي سرًا، لكن عندما لاحظه والده، ضربه بقسوة وهدده بالعقاب فور عودته للمنزل. خائفًا من العقاب، قرر علي الهرب، وسار على غير هدى حتى أنهكه التعب. انتهى به المطاف في أحد الجوامع، حيث لاحظه أهل القرية وأشفقوا عليه، لكن لم يتمكن أحد من معرفة هويته، إذ لم يكن يتذكر سوى اسمه الثلاثي.

بعد أيام من البحث عن أسرته دون جدوى، قرر أهل القرية إرساله إلى شيخ قبيلة معروفة بكرمه ونفوذه الواسع. استقبله الشيخ بترحاب، وأعلن تبنيه له بعد أن فشل في العثور على عائلته. ومنذ ذلك اليوم، أصبح علي جزءًا من أسرة الشيخ، الذي كان له ابنة وحيدة تُدعى جميلة.

نشأته تحت رعاية الشيخ
تلقى علي تربية صارمة في منزل الشيخ، حيث نشأ كفارس، وتعلم الحكمة وإدارة شؤون القبيلة. بمرور السنين، أصبح مستشارًا موثوقًا به، وكانت كلمته مسموعة بين رجال القبيلة.

حين بلغت جميلة سن الزواج، تقدم ابن عمها لخطبتها، لكن والدها رفضه بسبب سلوكه المستهتر. في المقابل، قرر علي التقدم لخطبتها، ففرح الشيخ، إذ رأى فيه صفات الفارس الحكيم. بعد استشارة ابنته، التي وافقت، تم الزواج، ورُزقا بطفل بعد عام.IMG-20250204-WA0000
 

اكتشاف الحقيقة
مع مرور السنوات، أصيب الشيخ بمرض شديد، وسافر مع علي إلى الخارج للعلاج. أثناء تسديد علي لحساب المستشفى، سمع فتاة تتجادل مع السكرتير حول تكاليف علاج والدها. بلهجتها، أدرك أنها يمنية، وقرر مساعدتها بدفع جزء من الحساب. لاحقًا، أثناء مراجعة الأوراق، وجد اسم والد الفتاة مطابقًا لاسم والده الذي لم يتذكر منه سوى الاسم الثلاثي.

تملكه الفضول، وقرر البحث عن أسرته الحقيقية. بدعم من زوجته، تواصل مع برنامج تلفزيوني يُعنى بالمفقودين، وروى قصته. بعد أسبوع من بث الحلقة، تفاجأ باتصال من البرنامج يُبلغه أن عائلته تم التعرف عليها، وأنهم يحتفظون بشهادة ميلاده وصوره القديمة.

الصدمة والمأساة
فرح علي كثيرًا، وسافر برفقة زوجته والشيخ وبعض رجال القبيلة للقاء عائلته. عند وصوله، استقبله والداه بالدموع والعناق، لكن سرعان ما تحولت الفرحة إلى صدمة حين علم الحاضرون أن أسرته تنتمي لفئة "المزاينة".

أثار هذا الاكتشاف غضب مشايخ القبيلة، واعتبروه أمرًا لا يشرفهم. تحت الضغط، قرروا إجبار علي على طلاق زوجته، وسحبوا منه مفاتيح المنزل والسيارة، وتركوا له طفله الوحيد. حاول علي إقناعهم بأنه نشأ بينهم، وأن انتماءه الطبقي لا يعني شيئًا، لكنهم رفضوا سماعه.

نهاية مأساوية
لم يتمكن علي من تحمل الصدمة. أصيب بانهيار نفسي، وبدأ يهيم في الشوارع، يحدث نفسه، ويردد اسم زوجته. في ليلة غامضة، وُجد مقتولًا طعنًا، دون أن يُعرف قاتله.

خاتمة

تكشف هذه القصة عن مدى الظلم الذي تسببت فيه الطبقية في المجتمع اليمني. فبينما يُفترض أن يكون الناس متساوين، تستمر بعض العادات في فرض قيود مجحفة على حياة الأفراد. القصة تطرح تساؤلات عميقة حول مدى عدالة هذه التقاليد، وتُذكرنا بقول النبي محمد ﷺ: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.