`
صرخة إبنه مظلومه

صرخة إبنه مظلومه

أمٍ ارتكبت أكبر خطأ في حياتها دون أن تدرك عواقبه

 

أنا امرأة في الحادية والستين من عمري، أتمتع بصحة جيدة بفضل الله، لا أعاني من أمراض مزمنة خطيرة، فقط بعض المشاكل الصحية المعتادة مثل السكري وارتفاع الضغط. كنت أعيش حياة طبيعية، لكنني لم أكن أدرك أنني كنت أرتكب خطأً فادحًا بحق أعز إنسانة في حياتي، خطأً لا يمكن إصلاحه، خطأ جعلني أعيش في ندم دائم لا يمحوه الزمن.

بداية القصة: أم وابنة كانت كل حياتها

كان لديّ ثلاث أبناء: ابن وابنتان. تزوج ابني منذ خمس عشرة سنة، وانتقلت ابنتي الصغرى إلى بيت زوجها منذ سبع سنوات. أما ابنتي الكبرى، فقد بقيت معي، رغم تقدم الكثيرين لخطبتها، إلا أنني كنت أرفض كل من يتقدم لها وأضع فيهم عيوبًا لا وجود لها. لم يكن السبب منطقيًا، بل كانت أنانيتي المفرطة هي التي دفعتني لذلك.

مع مرور الوقت، أصبحت أعتمد عليها في كل شيء. كانت تقوم بجميع أعمال المنزل، تسهر على راحتي، تلبي طلباتي، وتتحمل تقلباتي المزاجية. لم أكن أرفع حتى كوب الماء، كنت أتظاهر بالمرض لأستدعيها، أوقظها في منتصف الليل لأسباب تافهة، وأشعرها دومًا بأنها مقصرة مهما فعلت.

لم أكن أشكرها أبدًا، ولم أقدر جهدها أو تضحياتها. كنت أريد أن تبقى بجانبي للأبد، أن تكون خادمتي لا ابنتي. لم أشعر يومًا بالذنب، بل كنت أتصرف وكأن هذا حق مكتسب لي. كنت أنانية بشكل لا يوصف.

حرمانها من الزواج: ظلم لا يغتفر

رغم أنني كنت أستنكر دائمًا من يمنع أبناءه من الزواج، إلا أنني كنت أفعل الشيء ذاته دون أن أشعر بالخجل من نفسي. كنت أرى أن زواجها سيحرمُني من الراحة التي وفرَتها لي، ولم أفكر في حاجتها للحياة الطبيعية، للحب، للأسرة، للأطفال الذين تحلم بهم.

مرت السنوات، وكبرَت ابنتي حتى بلغت الأربعين. ومع كل عام يمر، كانت آمالها تتلاشى، وكانت نظرات الحزن في عينيها تزداد وضوحًا، لكنها لم تعترض ولم تتمرد. بل بقيت تحاول إرضائي رغم كل شيء.

وفي أحد الأيام، خلال شهر رمضان المبارك، تقدم لها رجل متواضع، فاشتعل غضبي. كيف لا تزال هناك فرصة لها للزواج؟ كيف لم تنطفئ آمالها بعد كل محاولاتي لإحباطها؟ لم يعجبني الأمر أبدًا، وقررت إفشال هذه الخطوبة كما فعلت مع من سبقوه.

اللحظة التي غيرت حياتي إلى الأبد

في ليلة السابع والعشرين من رمضان، افتعلت معها شجارًا كالعادة. كنت أريد أن أشعرها بالتقصير، فبدأت أشتكي من السحور الذي أعدته، وأصرخ عليها كعادتي. لكنها في تلك الليلة لم تصمت كما اعتادت، بل نظرت إليّ بعينين مليئتين بالدموع وقالت بصوت متهدج:

"أمي، أنا أعرف لماذا تفعلين بي كل هذا.. أنت لا تريدين أن أتزوج، أليس كذلك؟ حرام عليكِ يا أمي، لماذا تحرمينني من حقي في الحياة؟ ألم أقضِ سنوات عمري إلى جوارك أرعاكِ؟ هل أخطأت في شيء؟ ألا يحق لي أن أحلم ببيت وأطفال؟"

ثم انفجرت بالبكاء، وأنا لم أعر دموعها اهتمامًا، بل أكملت قسوتي وقلت لها ببرود:

"من سيتزوج عجوزًا عانسًا مثلك؟ احمدي الله أنك معي!"

لم أكن أدرك أن هذه الكلمات ستكون آخر ما تسمعه مني في حياتها. فجأة، رفعت يديها إلى السماء وقالت بصوت مختنق:

"يا رب، ارحمني مما أنا فيه.. لا أريد الزواج ولا أريد البقاء مع أمي.. خذني إليك يا الله.."

كانت تكرر "يا رب" بصوت يزداد ضعفًا، حتى انقطع صوتها فجأة وسقطت على الأرض. تحول لونها إلى الأزرق، وبدأت ترتجف. أصبت بالذعر، صرخت واستنجدت بالجيران، وتم نقلها إلى المستشفى.

الصدمة الكبرى

في المستشفى، أخبرنا الأطباء بأنها تعرضت لجلطة حادة في الدماغ ودخلت في غيبوبة. تجمع حولها الجميع: إخوتها، أقاربها، أصدقاؤها. كنت أبكي بجانبها، أقرأ القرآن، أدعو الله أن يعيدها إليّ، لكن الأوان كان قد فات.

في اليوم التالي، وبينما كنا جميعًا حولها، حدثت معجزة جعلت الجميع في حالة ذهول. فتحت عينيها، نظرت إليّ مباشرة، وقالت بصوت ضعيف لكنه واضح:

"ظلمتِني يا أمي.. والله سيأخذ حقي منكِ يوم الحساب."

ثم تشهدت، وزفرت أنفاسها الأخيرة، وخرجت روحها الطاهرة إلى بارئها.

سقطتُ على الأرض، شعرت أن قلبي قد توقف، لم أعد أرى من حولي، كل ما كنت أسمعه هو صدى كلماتها في أذني. أيقظها الله فقط لتقول لي هذه الكلمات قبل أن ترحل، وكأنها أرادت أن تترك لي رسالة واضحة لا تُنسى.

ندم لا يمحوه الزمن

ما فعلته بابنتي لا يمكن غفرانه. لم أكن أمًا صالحة، بل كنت ظالمة، قاسية، أنانية. لم أقتلها بيدي، لكنني قتلتها بظلمي، قتلتها بحرماني لها من حقها في الحياة، قتلتها عندما سلبتها أملها وسعادتها.

اليوم، أجلس وحيدة في البيت الذي كان يضج بحياتها. لا أحد يزورني، حتى ابني وابنتي الأخرى يكرهون النظر إليّ، ولا ألومهم. الجميع يحتقرني، وأنا أحتقر نفسي أكثر منهم.

أعيش ليالي لا يهدأ فيها ضميري، لا أستطيع النوم، صورتها تلاحقني، صوتها يرن في أذني، نظرتها الأخيرة تطاردني في كل لحظة.

لا أطلب منكم الشفقة، فأنا لا أستحقها. لكنني قررت أن أنشر قصتي ليأخذ منها الجميع العبرة. لا تظلموا أبناءكم، لا تحرموهم من حقوقهم، لا تجعلوا أنانيتكم سببًا في دمار حياتهم.

البر ليس مطلوبًا فقط من الأبناء تجاه والديهم، بل هو واجب أيضًا على الآباء تجاه أبنائهم.

"وقد خاب من حمل ظلمًا."

اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لابنتي، وارحمها، واغفر لي تقصيري وذنبي، فأنا أعلم أنني لا أستحق المغفرة، لكني أرجو رحمتك يا أرحم الراحمين.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.