في مختلف الثقافات والديانات، تنتشر الحكايات والأساطير التي تتحدث عن أماكن غامضة تحمل طابعًا خارقًا، ومن بين هذه القصص، تلك المتعلقة بـ "مساجد الجن"، التي قيل إن الجن شاركوا في بنائها أو أن النبي محمد ﷺ التقى بهم فيها. وتظل هذه الحكايات مصدر اهتمام وتأمل، بين من يراها جزءًا من التراث الشعبي ومن يعتبرها حقائق تستحق التأمل. في هذا المقال، نستعرض اثنين من أشهر مساجد الجن، أحدهما في اليمن والآخر في السعودية، ونروي القصص التي نسجت حولهما.
المسجد الأول: مسجد الجن في اليمن
يقع هذا المسجد في اليمن، بمحافظة الحديدة، مديرية الدريهمي، وهو أحد المعالم الدينية والتاريخية المهمة في المنطقة. يعود تاريخ بنائه إلى عام 1011 هجريًا، حيث قام السيد علي بن المقبول بتشييد الجزء الشمالي من المسجد، الذي يتضمن ثلاث قباب. لكن القصة الأكثر غرابة والتي جعلت المسجد يحمل اسم "مسجد الجن"، تعود إلى واقعة غامضة نسجت حولها العديد من الروايات والأساطير.
القصة الغامضة لبناء المسجد
ذات يوم، مرت مجموعة من الحجاج الهنود بالمنطقة، وكانوا في طريقهم إلى مكة المكرمة. عندما رأوا المسجد، لاحظوا أنه غير مكتمل، فتملكهم الحماس لفكرة توسيعه وإضافة عدة قباب أخرى على نفقتهم الخاصة. غير أن صاحب المسجد رفض الفكرة في البداية، ثم توصلوا إلى اتفاق يقضي بأن يعملوا كـ عمال بأجرهم اليومي، في حين يتكفل هو بمصاريف البناء.
بدأ العمال في البناء وأتمّوا الجزء الجنوبي من المسجد، إلا أنه في آخر ليلة من العمل، اختفوا جميعًا دون أن يطالبوا بأجورهم. لم يتركوا أثرًا، ولم يُعثر على أي دليل على هويتهم أو أماكن إقامتهم، مما أثار الشكوك حولهم. وهنا بدأ الناس يتساءلون: "هل كان هؤلاء العمال بشرًا أم جنًا؟". ومنذ ذلك اليوم، أطلق على المسجد اسم "مسجد الجن"، وأصبحت هذه القصة تتناقلها الأجيال في المنطقة.
عزوف الناس عن الصلاة فيه
نتيجة لهذه الرواية، هجر الناس المسجد لعشرات السنين، ولم يكن يُقام فيه سوى صلاة العيدين. شاع بين سكان المنطقة أن المسجد مسكون بالجن، إذ كان البعض ممن يحاولون الصلاة فيه يشعرون بالخوف أو بإحساس غريب يمنعهم من إتمام الصلاة.
عودة الصلاة إلى المسجد
في عام 2005م، بدأ أبناء المنطقة يتحدّون مخاوفهم، وقرروا العودة إلى الصلاة في المسجد، متجاهلين الروايات المتداولة حوله. ومع مرور الوقت، أصبح المسجد مكانًا مألوفًا للصلاة مجددًا، على الرغم من استمرار تداول القصة. والأمر المثير للاهتمام أن هوية من بنى الجزء الجنوبي من المسجد لا تزال غير معروفة حتى اليوم، مما يبقي هذه الحكاية في دائرة الغموض والأسطورة.
المسجد الثاني: مسجد الجن في مكة المكرمة
يعد مسجد الجن في مكة المكرمة من المواقع الدينية المهمة، ويقع في حي الحجون، بالقرب من مقبرة المعلاة. يحمل المسجد طابعًا روحانيًا خاصًا، ويرتبط بإحدى أشهر القصص في السيرة النبوية، حيث يُقال إن النبي محمد ﷺ التقى بالجن في هذا المكان وقرأ عليهم القرآن، مما دفعهم إلى مبايعته على الإسلام.
الرواية النبوية
تذكر الروايات الإسلامية أن النبي ﷺ كان في أحد الأيام يقرأ القرآن الكريم، فاستمعت إليه مجموعة من الجن وتأثروا بكلام الله، فذهبوا إلى قومهم وأخبروهم بما سمعوا. وقد ورد في القرآن الكريم ذكر لهذا الحدث في سورة الجن:
"وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ"
(سورة الأحقاف: 29)
ويُقال إن النبي ﷺ رسم دائرة على الأرض لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وطلب منه الجلوس داخلها وعدم الخروج منها مهما حدث. ثم بدأ النبي ﷺ بتلاوة القرآن، وما إن شرع في القراءة حتى تجمع الجن بأعداد كبيرة للاستماع إليه، حتى إن ابن مسعود لم يعد يستطيع رؤية النبي ﷺ بسبب كثرتهم.
تاريخ بناء المسجد
بني المسجد في القرن السابع عشر الميلادي (1700م)، في الموقع الذي يُعتقد أن النبي ﷺ تلا فيه القرآن على الجن. كما كان المسجد يُعرف باسم "مسجد البيعة"، نظرًا لأن الجن بايعوا النبي محمد ﷺ في ذلك المكان.
تصميم المسجد
يتميز المسجد بتصميم حديث، وتبلغ مساحته حوالي 500 متر مربع، ويتسع لـ حوالي 350 مصلٍّ. وعلى الرغم من أن المسجد يحمل طابعًا روحانيًا مميزًا، إلا أنه يُنظر إليه أيضًا كموقع أثري مهم في مكة المكرمة.
بين الأسطورة والواقع
قصص مساجد الجن تحمل بُعدًا روحانيًا وتاريخيًا، حيث يمتزج فيها الموروث الشعبي بالدين.
- في حالة مسجد الجن في اليمن، لا يزال الغموض يحيط بهوية من أتمّ بناؤه، مما يجعل الرواية الشعبية أكثر تشويقًا.
- أما مسجد الجن في مكة، فهو يحمل دلالة دينية واضحة، ويؤكد لقاء النبي محمد ﷺ بالجن وإيمانهم به، كما ورد في القرآن الكريم.
سواء كانت هذه الحكايات حقيقة أم مجرد أساطير متناقلة، فإنها تظل جزءًا مهمًا من التراث الإسلامي والعربي، وتعكس عمق الارتباط بين الإنسان وعالم الغيب الذي يحيط به.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا ونبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
Leave a comment
Your email address will not be published. Required fields are marked *