`
أسعد مجرمة على وجه الأرض

أسعد مجرمة على وجه الأرض

قصة تحكي بأن الأبطال الحقيقيين هم أولئك الذين يحملون الرحمة في قلوبهم، وأن الحقيقة وإن حوصرت، لا تموت، والعدالة وإن تأخرت، فإنها لا بد أن تأتي.

 

في ليلةٍ باردة من شهر نوفمبر عام 1979، اهتزّت مدينة جدة على وقع خبرٍ مروّع: ثلاثة أطفالٍ توأم حديثي الولادة اختفوا فجأةً من داخل قصرٍ فخم. ولم يمر وقت طويل حتى وُجِّهت أصابع الاتهام إلى خادمة فقيرة تُدعى فوزية. أصبحت تُلعن في كل بيت سعودي، وصار اسمها رمزاً للخيانة والشر. لكن ما لم يعرفه أحد آنذاك، أن الحقيقة كانت مدفونة عميقاً في صحراء نائية، تنتظر اللحظة المناسبة لتخرج إلى النور.

بعد ثمانيةٍ وثلاثين عاماً من الصمت، جلس رجل مسنّ على كرسي متحرك أمام كاميرا تلفزيونية، ويداه ترتجفان وهو يستعد لاعترافه الأخير قبل الموت. اعتراف سيقلب كل شيء رأساً على عقب، ويكشف عن أضخم مؤامرة شهدتها المملكة.

هذه قصةٌ عن الحب والتضحية والظلم… عن امرأة بسيطة قامت بأعظم عمل بطولي في التاريخ، لكنها ماتت ملعونةً منبوذة. وعن ثلاثة إخوة عاشوا حياتهم كاملة دون أن يعلموا أنهم إخوة.


الفصل الأول: ليلة الاختفاء

كان نوفمبر يرسل برودته القاسية في أرجاء جدة القديمة. وفي أروقة القصر العريق، علا بكاء ثلاثة أطفالٍ حديثي الولادة. جلست فوزية، الأرملة البسيطة ذات الخمسين عاماً، تحتضن أحد الأطفال بين ذراعيها المرتجفتين، وعيناها الداكنتان تتأملان وجهه الصغير النائم. لم تكن تدري أن تلك اللحظة ستكون آخر لحظات هدوئها في الحياة.

عملت فوزية في القصر لأكثر من عشر سنوات، وشهدت ولادة أطفالٍ كُثر من هذه العائلة، لكن التوائم الثلاثة كان فيهم شيء مختلف. ربما لأنها لم تُرزق بأطفال قط، أو لأن قلبها الأمومي المكسور وجد فيهم ضالته المفقودة. كانت تهمس لهم بأغنيات قديمة ورثتها عن جدتها في قرية صغيرة قرب الطائف.

وفجأة، سمعت وقع أقدام ثقيلة تقترب من غرفة الأطفال. أطفأت المصباح الصغير بجانب المهد وتظاهرت بالنوم على الكرسي الخشبي. قلبها يخفق بعنف حين دخل خالد، شقيق سيد القصر الأكبر. كان رجلاً ضخم الجثة، قاسي الملامح، مشهوراً بتعامله الوحشي مع الخدم. لكن ما رأته فوزية تلك الليلة جعل الدم يتجمد في عروقها.

قدماه كانتا ملطختين بالدماء، يترك أثراً لزجاً على السجاد الفارسي الثمين. وفي يده حقيبة جلدية صغيرة. نظر حوله بحذر، ثم انحنى تحت مهد الطفل الأوسط، وأخفى الحقيبة هناك. كان يتصبب عرقاً رغم برودة الليل.

حبست فوزية أنفاسها، لكن الطفل في حضنها أصدر أنيناً خافتاً. التفت خالد بسرعة البرق، وعيناه تخترقان عينيها مباشرة.
– "كم من الوقت وأنتِ مستيقظة؟"
تمتمت بصوت مرتجف: "كنت نائمة يا سيدي، استيقظت لتوي عندما سمعت بكاء الطفل."
نظر إليها طويلاً، ثم قال: "احرصي أن يبقى نومك عميقاً يا فوزية… أحياناً الأحلام تتحول إلى كوابيس."

وغادر، تاركاً وراءه رائحة الحديد والدم. بقيت فوزية جالسة لساعات تحتضن الطفل وتبكي بصمت. كانت تعلم أن حياتها لن تعود كما كانت أبداً.


الفصل الثاني: المؤامرة

في الليلة التالية، وبينما كانت تُعد الحليب للأطفال في المطبخ، سمعت همساً من غرفة الطعام. اقتربت بخطوات مرتجفة. كان خالد يتحدث مع رجلين بملابس أنيقة، لكن ملامحهما قاسية.

قال خالد بصوت خافت:
– "التوائم الثلاثة مثاليون. عمرهم أسبوعان فقط. الأسرة الأمريكية ستدفع مليون دولار لكل طفل… تحت مسمى التبني الإنساني."

سأله أحدهما:
– "وماذا عن أمهم؟"
أجاب خالد:
– "ليلى؟ لا تقلقوا بشأنها. ستأخذ دواءً يساعدها على التعافي من صدمة الفقدان. ستظل نائمة لفترة كافية حتى ننهي كل شيء."

كادت فوزية تسقط من الصدمة. ارتجفت يداها حتى انكسر الكوب الذي تحمله، فأحدث صوتاً عالياً. ساد الصمت في الغرفة المجاورة. ارتعبت، وركضت إلى غرفتها الصغيرة في الطابق السفلي، وأغلقت الباب عليها وهي تلهث.

لم تنم طوال الليل. كانت تفكر وتبكي وتدعو الله أن يرشدها. وعند الفجر، مع صدى الأذان في جدة القديمة، اتخذت قرارها: لن تسمح ببيع هؤلاء الأطفال كالسلع، ولن تدع الأم الحنون "ليلى" تُساق إلى الجنون بفقدانهم. حتى لو كلفها الأمر حياتها.

وعند شروق الشمس، فتحت بوابة القصر الحديدية الضخمة. وعندما دخل خالد بعد ساعات ليتفقد الترتيبات، وجد المهود فارغة… والصمت يخيّم على المكان.

لقد اختفت فوزية مع التوائم الثلاثة.


الفصل الثالث: سقوط اللعنة

انتشر الخبر كالنار في الهشيم. الصحف كتبت: "خادمة تختطف أطفال النبلاء."
تحولت فوزية في الرواية الشعبية إلى شيطانة خانت الأمانة. أما الأم "ليلى"، فأُعطيت جرعات كبيرة من المهدئات، وأُبعدت عن الإعلام والشرطة بحجة حالتها النفسية.

تولى خالد بنفسه الإشراف على التحقيقات، موجهاً الشرطة بعيداً عن أي خيط حقيقي. ولم يُعثر على أثر لفوزية أو الأطفال.

بكى السعوديون على المأساة، وامتلأت المجالس باللعنات ضد فوزية.

لكن الحقيقة أن تلك المرأة البسيطة، في مكان ما من صحراء الجزيرة البعيدة، كانت تحتضن الأطفال الثلاثة وتبكي… لا حزناً، بل حباً أمومياً صافياً ملأ قلبها لأول مرة.


الفصل الرابع: بعد 38 عاماً

مرت ثمانية وثلاثون عاماً كالريح العاصفة، حاول الزمن أن يمحو ذكرى تلك الليلة المشؤومة.

في مدينة الطائف، حيث تفوح رائحة الورد الطائفي وتتناثر أشعة الشمس الذهبية على قمم الجبال، كان الإمام ياسين المطيري، ذو الثمانية والثلاثين عاماً، يقف أمام مسجد قديم. طويل القامة، لحيته سوداء، عيناه عسليتان يملؤهما نور الحكمة والطيبة. كان محبوباً في مجتمعه، بخطبه المؤثرة ويده الممدودة لكل محتاج. زوجته "خديجة" المرأة الصالحة، وابنته "سارة" ذات الاثني عشر ربيعاً، كانوا زينة حياته

كانت خديجة وسارة فخورتين بياسين، في خدمته لدينه ومجتمعه، تتابعان خطواته بعين الحب والدعاء.

وفي يومٍ من شهر مارس عام 2017، مالت الشمس نحو المغيب، عندما وصلت شاحنة محملة بالتبرعات إلى المسجد القديم الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر الهجري. كان المسجد قد تضرر بفعل السيول، فهبّ أهل الحيّ متعاونين، يجمعون الأموال ويقدّمون الأيدي لترميمه وبنائه من جديد.

وقف ياسين يُشرف على العمل، والسعادة تغمر قلبه وهو يرى كيف تجتمع القلوب في سبيل الله. كانت ابنته الصغيرة سارة، ذات العينين البريئتين والشعر الأسود المضفَّر، تراقب بفضول الطفولة البريء العمالَ وهم يزيلون الأنقاض من الغرف الخلفية.

فضولها دفعها للتجوال في أرجاء المبنى القديم. دخلت غرفة صغيرة شرقية، كانت قد استُخدمت قديماً لحفظ المصاحف والكتب الدينية. الغرفة مليئة بالغبار وخيوط العنكبوت. وبينما كانت تتحسس الجدار بيديها الصغيرتين، لفت انتباهها أن إحدى الطوبات مختلفة: بارزة قليلاً، وأقل ثباتاً من البقية.

ضغطت عليها بيدها فسقطت بسهولة، تاركة فجوة صغيرة في الجدار. ومن خلفها، برز شيء ملفوف بقماش قديم. سحبته سارة بحذر، وقلبها الصغير يخفق بالإثارة. كان قطعة قماش مطرزة بخيوط ذهبية وفضية، مرسومة عليها زخارف إسلامية ونقوش كوفية عتيقة.

ركضت سارة بكل حماس نحو والدها، وهي تصرخ بفرحة مكتشفة:
– "بابا! بابا! انظر ماذا وجدت!"

التفت ياسين إليها، وابتسامة حانية تعلو وجهه وهو يمسح العرق عن جبينه:
– "ما هذا يا حبيبتي؟"

مدّت سارة القماش أمامه وهي تقول:
– "وجدته مخبأً في الجدار… ألا تراه جميلاً؟"

أخذ ياسين القطعة بين يديه، وأحسّ بنعومة القماش العتيق، وبجمال التطريز المتقن. كان واضحاً أن كل غرزة تحمل قصة، وكل خيط يهمس بسر قديم. وبينما كان يتفحص القطعة بعناية أكبر، لاحظ شيئاً غريباً مخيطاً داخل طبقاتها.

بدأ يفك الخيوط القديمة بيدين ترتجفان، وقلبه يخفق بقوة. طبقةً تلو أخرى، حتى سقط من بين القماش مظروف أصفر، مغطى بالغبار، مختوماً بشمع أحمر قديم. وعلى وجهه، بخط يدٍ مرتجف وبحبر باهت، كتب:

"إلى أطفالي الثلاثة الأحبّة… سامحوني لأني أحببتكم في صمت كل هذه السنوات."

ارتعش جسد ياسين، وشعر بقشعريرة تسري فيه، وكأن روحاً من الماضي لمسته بأصابعها الباردة. التفت حوله ليتأكد أن لا أحد يراه، ثم فتح المظروف بحذر شديد.

في داخله أوراق مكتوبة بخط نسائي رقيق. بدأ ياسين القراءة بصوت مرتجف:

"بسم الله الرحمن الرحيم،
إن كان القدر قد شاء أن تقرؤوا هذه الكلمات يوماً ما، فاعلموا أنني امرأة عشت حياتي كلها من أجلكم.
اسمي فوزية بنت عبد الله، أنا الخادمة التي اتهمها العالم كله بخطف ثلاثة أطفال من عائلة في جدة عام 1979."

توقف ياسين لوهلة، مذهولاً. لقد سمع من قبل هذه القصة الشهيرة عن "الخادمة الشريرة" التي خطفت الأطفال واختفت، لكن ما يقرأه الآن مختلف تماماً عن الرواية الرسمية.

واصل القراءة بشغف:

**"لم أخطفكم يا أحبتي… لقد أنقذتكم.
رأيت بعيني كيف خطط خالد، الرجل الذي لا يعرف الرحمة، لبيعكم لأناس غرباء في بلاد بعيدة. رأيت الدماء على قدميه، ولا أعرف مصدرها حتى اليوم. سمعتهم يتحدثون عن صفقة لبيعكم مقابل المال، وعن خطتهم لإسكات أمكم الحبيبة ليلى بالأدوية المخدِّرة.

أخذتكم في تلك الليلة الباردة من نوفمبر، وهربنا إلى الصحراء. عشنا سنوات طويلة في كهف صغير قرب مدينة حائل، حيث ربيتكم بحب أم لم تنجب قط. علمتكم القرآن والصلاة، رويت لكم قصص الأنبياء، وأطعمتكم من كدّ يدي. كنتم أطفالاً رائعين، مليئين بالحياة والضحك."**

بينما يقرأ، بدأ لون وجه ياسين يشحب. سارة لاحظت ارتجافه، فسألته بقلق:
– "بابا، هل أنت بخير؟"

لم يجبها، وواصل القراءة:

**"حين بلغتم الرابعة، بدأ خالد وأعوانه يقتربون من مخبئنا. علمت أن اكتشافنا بات قريباً، فقررت أن أفرقكم حتى أضمن بقاءكم.

– ياسين… يا ولدي الأكبر، وضعتك عند إمام في الطائف.
– سمير… أعطيتك لعائلة في أبها.
– مازن… الأصغر، وضعته مع أسرة في الأحساء.

أعلم أنكم ستكرهونني حين تعرفون الحقيقة. العالم كله يلعن اسمي، لكني لم أندم على ما فعلت. كنت كل ليلة أنام أحلم بوجوهكم الصغيرة، وكل صباح أدعو الله أن يحميكم. إن كان الحب جريمة… فأنا أسعد مجرمة على وجه الأرض."**

وختمت رسالتها بجملة قصيرة موجعة:

"ابحثوا عن إخوتكم… ابحثوا عن الحقيقة. وإن أردتم لعن اسمي بعد ذلك، فافعلوا. فقد أحببتكم أكثر من حياتي."

سقط ياسين على الأرض محتضناً الرسالة، دموعه تنهمر كالمطر. جلست سارة بجواره تربت على كتفه:
– "بابا، لماذا تبكي؟ هل قرأت شيئاً حزيناً؟"

نظر إليها بعينين دامعتين وهمس:
– "يا ابنتي… أظن أنني عرفت الآن من أكون حقاً."


بداية البحث عن الإخوة

لم ينم ياسين تلك الليلة، ولا التي تلتها. ظل يقلب الرسالة مراراً، يحفظ كلماتها، يحاول استخراج أسرارها. خديجة زوجته تراقبه بقلق متزايد. لم يعد الإمام الهادئ الحكيم الذي عرفته منذ خمسة عشر عاماً.

صار شبحاً يمشي بين جدران البيت، أوراق بين يديه، مكالمات طويلة مع غرباء.

وفي إحدى الليالي، جلس أمام جهاز الكمبيوتر القديم في مكتبه الصغير. تعلم كيف يستخدم الإنترنت، وقضى ساعات يبحث في المواقع التي تساعد الناس على العثور على أقاربهم المفقودين. حتى وجد موقعاً متخصصاً في فحوصات الحمض النووي للأشخاص الذين يشكون في هويتهم: موقع الأصول العربية، مقره الرياض.

قرر أن يجري الفحص، لكنه كان يعلم أنه بحاجة أولاً للعثور على سمير ومازن.

بدأ رحلة بحث مضنية في السجلات المدنية ومواقع التواصل. وبعد أسبوعين كاملين من الجهد المتواصل… وجد أول خيط يقوده إلى ضالته.

انتظرونا في الجزء الثاني من القصه   


Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.