في عالمٍ تملؤه الضوضاء، وتتنافس فيه الأصوات، بات من النادر أن نجد من يُصغي بصدق. الجميع يتكلم، لكن من يُنصت؟
نعيش في زمنٍ كثرت فيه الردود وقلّ فيه الفهم، كأننا نُجيد الحديث أكثر مما نُجيد السماع، فكيف لا تتفكك العلاقات وتبهت الروابط إذا فقدنا فنًّا بسيطًا لكنه عظيم الأثر: الإنصات؟
ما الفرق بين السماع، الاستماع، والإنصات؟
- السماع: هو وصول الصوت إلى الأذن بشكل تلقائي دون انتباه أو تركيز، كأن تسمع ضجيج الطريق.
- الاستماع: هو توجيه السمع والانتباه بقصد الفهم والمتابعة.
- الإنصات: هو أرقى درجات السمع، حيث تصغي بقلبك وعقلك، وتنصت بإحساسك، وتُظهر اهتمامك بلغة الجسد والعين.
" نحن نسمع كثيرًا… لكننا نُنصت قليلًا "
لماذا لم نعد ننصت بعمق؟
عدة أسباب أسهمت في تراجع مهارة الإنصات في حياتنا اليومية، منها:
- الانشغال بالتفكير في الرد قبل نهاية الحديث
فلا نُعطي الآخر حقه في التعبير. - الاعتماد المفرط على الهواتف الذكية
حتى في لحظات الحوار، ننشغل بالشاشة أكثر من الشخص أمامنا. - تغلّب الصوت الفردي في الثقافة الحديثة
حيث يُمجّد من يتكلم أكثر من الذي يُصغي. - ضغوط الحياة المستمرة
التي تجعل عقولنا مُشتتة، فلا نمنح غيرنا الانتباه الكامل.
“ أصبح الإنصات فنًا غائبًا في زمن السرعة ”
أثر غياب الإنصات على علاقاتنا
- يُفقد الطرف الآخر الشعور بالتقدير
- يزيد من سوء الفهم والخلافات
- يدفع البعض إلى الانطواء أو البحث عن مستمع غريب
- يهدم الجسور بين القلوب ويخلق فجوة في الحوار
حين لا يُنصت إليك أحد، تشعر بالوحدة حتى وأنت وسط الناس.
لذا، فالإنصات ليس رفاهية، بل حاجة إنسانية أساسية.
أمثلة على قوة الإنصات
- طفل يبكي: لا يبحث دائمًا عن حل، بل عن من يسمعه ويحتضن مشاعره.
- زوجان يختلفان: قد تُحلّ مشاكل كبيرة بحديث بسيط يتخلله إنصات صادق.
- مدير يُنصت لموظفيه: يكسب احترامهم وولاءهم لا بالأوامر بل بالاهتمام.
- صديق في ضيق: لا يحتاج موعظة، بل آذانًا صامتة وقلوبًا حاضرة.
خطوات عملية لاكتساب فن الإنصات
- توقف عن المقاطعة، دع المتحدث يُنهي فكرته.
- انظر في عينيه لتظهر اهتمامك واحترامك.
- أعد صياغة ما سمعته لتثبت فهمك.
- لا تُصدر حكمك قبل أن تفهم.
- كن حاضرًا بكل جوارحك، لا بجسدك فقط.
“ أحيانًا، إنصاتك وحده كفيل بأن يداوي قلبًا مجروحًا”
دليل من القرآن الكريم على أهمية الإنصات
جاء في كتاب الله تعالى:
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
(سورة الأعراف: 204)
في هذه الآية، يأمرنا الله تعالى بالاستماع والإنصات عند تلاوة القرآن، لا لمجرد الفهم، بل لننال الرحمة، وهذا دليل على أن الإنصات فعلٌ عظيم الشأن، يُهيّئ النفس لتلقّي الخير، والرحمة، والتأمل.
فكيف لا نُحسن الإنصات للبشر، إذا كان ربّنا أمرنا بالإنصات لكلامه؟
كيف علّمنا النبي ﷺ فن الإنصات؟
كان النبي محمد ﷺ قدوةً في الإصغاء والتقدير. لم يكن يقطع حديث أحد، مهما طال، وكان يُنصت للضعفاء كما يُنصت للأقوياء.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
"كان إذا استقبله أحد بحديث أصغى إليه حتى يكون هو الذي ينصرف."
ما أعظم هذا الأدب! وما أرحب هذا القلب!
أن تُنصت حتى ينتهي الآخر، دون استعجال، ودون تشتيت، هذا هو الإنصات الذي يرمم القلوب ويُحيي العلاقات.
الخلاصة
الإنصات ليس مجرد مهارة اجتماعية، بل هو فنٌّ راقٍ لا يُتقنه إلا العظماء.
أن تُنصت يعني أن تمنح الآخر وقتك، واحترامك، واهتمامك، دون أن تُحمّله عناء تكرار نفسه أو الشعور بعدم الأهمية.
فلنُحيي هذا الفن في بيوتنا، ومجالسنا، وعلاقاتنا.
فربّ إنصاتٍ صادق... أنقذ علاقة، وشفَى قلبًا، وأعاد الثقة إلى روحٍ أنهكها الصمت الموجع.
Leave a comment
Your email address will not be published. Required fields are marked *