
مرض أخلاقي يؤذي النفوس
النميمة سلوكا اجتماعيًا وأخلاقيًا خطيرًا، يهدد استقرار المجتمعات ويقوّض الثقة بين الأفراد
في عالم يموج بالكلمات والأحاديث، تتسلل بعض الألسن لتبث سمومها في العلاقات، وتُفسد الصفاء بين الأصدقاء والأقارب. إن النميمة ليست مجرد سلوكًا عابرًا، بل هي مرضٌ خفي يسري في المجتمعات، فيؤذي النفوس، ويمزق نسيج الثقة. إنها نقل الكلام بقصد الإفساد، وقد نهى عنها الإسلام وأجمعت الشرائع والعقول السليمة على قُبحها وضررها العظيم.
أولًا: تعريف النميمة ومظاهرها
النميمة هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض، بقصد الإيقاع والفساد. قد تكون النميمة واضحة وصريحة، مثل قول: "فلان شتمك"، وقد تكون مموهة ومُبطنة، كقول: "اسأل فلانًا عنك، وستعرف أنه لا يحبك"، وكلها تصب في خانة الفتنة والقطيعة.
ومن مظاهر النميمة:
نقل أسرار الآخرين دون إذنهم.
تفسير الكلام بحُسن ظاهره ثم عرضه بطريقة مُسيئة.
المبالغة أو الكذب في النقل.
مشاركة الأسرار في مجالس الغيبة والاستهزاء.
ثانيًا: الأسباب النفسية والاجتماعية للنميمة
ليست النميمة سلوكًا وليد لحظة، بل هي ناتجة عن دوافع داخلية وخارجية، منها:
- ضعف الإيمان: من لا يخشى الله، يطلق لسانه في أعراض الناس دون وازع ديني.
- حب التسلط أو جذب الانتباه: البعض يرى في النميمة وسيلة للظهور أو إثبات الذات.
- الغيرة والحقد: ينقل الكلام للإفساد بدافع الحسد لمن يراهم أفضل منه.
- الفراغ والبطالة الفكرية: من لا يشغل نفسه بشيء مفيد، يشغلها بكلام الناس.
- رفاق السوء: البيئة التي تنتشر فيها الغيبة والنميمة تدفع الإنسان إليها تلقائيًا.
ثالثًا: آثار النميمة المدمرة
- على الفرد:
فقدان احترام الناس وثقتهم.
انعدام الاستقرار النفسي نتيجة الحقد والتوتر.
الوقوع في الإثم والعقوبة الإلهية.
العُزلة الاجتماعية والنفور منه حتى من أقرب الناس.
- على المجتمع:
تدمير العلاقات الاجتماعية، وتفكيك الأسر.
انتشار الفتن، وسوء الظن، والحروب النفسية.
زعزعة القيم والمبادئ، وتدهور الأخلاق العامة.
تعطيل التعاون والتكافل بسبب الحذر والخوف المتبادل.
رابعًا: النميمة في ميزان الشريعة الإسلامية
جاء الإسلام ليربي المسلم على طهارة اللسان ونقاء القلب. وقد وردت النميمة ضمن كبائر الذنوب، لعِظَم خطرها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمّام" (رواه مسلم).
وقال تعالى: "هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ" [القلم: 11]، يذم بها أهل الفساد.
وقد مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير... أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" (رواه البخاري ومسلم).
الشريعة لا تُعاقب النمّام فقط، بل تُحمّل المستمع مسؤولية المشاركة في الإثم إذا لم يُنكر أو يمتنع عن الاستماع.
خامسًا: وسائل الوقاية والعلاج من النميمة
وقاية النفس:
تربية النفس على مراقبة الله تعالى في القول والعمل.
إشغال اللسان بالذكر وطلب العلم والكلام المفيد.
التثبت قبل نقل أي حديث، لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..." [الحجرات: 6].
كظم الغيظ والعفو عن من أساء، لتفويت الفرصة على النمّام.
موقف المسلم من النمّام:
عدم تصديقه إلا بدليل واضح.
نصحه بلطف، وتذكيره بعواقب فعله.
عدم نشر ما يقوله أو إعادة تداوله.
الابتعاد عن مجالسه، والبحث عن بيئة صالحة.
سادسًا: النميمة في ضوء القيم الإنسانية
النميمة لا تُحرّم فقط في الإسلام، بل تُعدّ سلوكًا منبوذًا في كل الثقافات. فهي تتنافى مع:
الصدق: إذ تحمل في طياتها غالبًا الكذب أو التضليل.
الأمانة: إذ يُفترض في الإنسان كتمان السر لا إذاعته.
الاحترام: فهي تخرق خصوصيات الناس وتهينهم.
العدل: لأن النميمة تنقل نصف الحقيقة أو تُخرجها من سياقها.
خاتمة
إن النميمة نار خبيثة تحرق الصداقات، وتُطفئ أنوار المحبة، وتَجعل القلوب أوعية للكراهية والريبة. وما لم يتوقف الناس عن تداولها، فستظل المجتمعات تعاني من التفكك والانقسام.
فلنحرص على تنقية ألسنتنا، كما ننقّي قلوبنا، ولنجعل من كلماتنا جسورًا تبني، لا سهامًا تُدمّر. يقول أحد الحكماء: "إذا بلغت عن أخيك ما يسوؤه، فقد جمعته إلى عيوبه، وزدتَ عليه عيبك."
فلنصنع لأنفسنا سمعة طيبة، ولنكن قدوة في طهارة اللسان وصدق النية، فالكلمة قد تكون طريقًا إلى الجنة، أو سببًا في الهلاك.
نحن بشر لسنا ملائكه وقد نخطئ أحياناً ولكن نتراجع ونستغفر الله ونتوب اليه في كل وقت وحين وخير الخطائين التوابين.
Leave a comment
Your email address will not be published. Required fields are marked *