في لحظات الانكسار، حين يخذلنا أقرب الناس إلينا، نشعر وكأن الأرض قد ضاقت بما رحبت، وكأن السماء بعيدة لا تسمع أنين قلوبنا. نصارع دموعنا في الخفاء، ونتساءل: لماذا حدث هذا؟ لماذا منحت إخلاصي لمن لا يستحق؟ غير أن ما لا نعلمه هو أن وراء كل وجع رسالة، ووراء كل خذلان نعمة خفيّة، وأن الجرح الذي يتركه البشر في قلوبنا ما هو إلا بداية لطريق جديد يفتح الله فيه لنا أبوابًا من الرحمة واللطف والعوض.
ذلك لأن الخذلان البشري قد يكون في حقيقته أعظم هدية إلهية، يرفع الله بها مقامك، ويطهّر بها قلبك، ويدنيك بها منه. قال تعالى:
"وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" [البقرة: 216].
الخذلان… ليس نهاية بل بداية إنقاذ
قد نظن أن خسارة علاقة أو انسحاب أحدهم من حياتنا قمة الانكسار، لكن الواقع أن الله بلطفه قد ينقذك من ألم أكبر. فحين يُبعد الله عنك إنسانًا، قد يكون يبعد عنك شرًّا مستقبليًا لا تراه الآن. إنه يكشف لك حقيقتهم، لا ليزيد جرحك، بل ليحميك من عذاب كان سيمتد معك عمرًا كاملاً.
وما دمت في معية الله فلست خاسرًا. ألم يتعرض رسول الله ﷺ نفسه لأشد ألوان الخذلان؟ طُرد من مكة، أوذي في الطائف حتى أدميت قدماه، وشُجّ رأسه في أُحد. ومع كل ذلك لم يقل يومًا: "خذلني ربي"، بل قال في خضوع ورضا:
"إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي" [رواه الطبراني].
هذا هو اليقين الذي يعلّمنا أن من كان الله معه، فلن يهزمه فقدان أحد.
قصة من الواقع… خذلان أقسى من المرض
قبل عام، كنت أعاني من انزلاق غضروفي في العمود الفقري، وأجريت عملية صعبة أجبرتني على ملازمة الفراش لأشهر طويلة، حتى تركت عملي كإدارية في مدرسة. خلال فترة مرضي، رسب ابني في الثانوية بسبب كثرة غيابه، وكنت أظن أن ذلك هو أقسى ما أمرّ به.
لكن الصدمة الكبرى لم تكن في مرضي، بل في قلبي: اكتشفت أن زوجي تزوج في السر وأنا طريحة الفراش! لم يرحم ضعفي، ولم يقدّر أن مرضي قضاء من الله. لم أعاتبه يومًا على تقصيره، لكن عدم وقوفه معي في مرضي كان أعظم خذلان مرّ عليّ في حياتي. تمنيت يومها لو أن الأرض ابتلعتني قبل أن أسمع الخبر.
ومع ذلك، علّمتني التجربة درسًا لا أنساه: أن التعلق بالله أعظم وأصدق من أي سند بشري، وأن من تعلّق بغير الله انكسر، ومن لجأ إلى الله جبره جبّار السموات والأرض.
"الجبّار": اسم يداوي كل انكسار
من أسمائه الحسنى: الجبّار. ليس معناه القهر وحده، بل الجبر، أي أنه سبحانه يجبر كسر القلوب المنكسرة. حين تُخذل، هو الذي يراك. حين تُخدع، هو الذي يعلم. حين تبكي في صمت، هو الذي يسمع.
وقد وعدنا رسول الله ﷺ فقال:
"مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ" [رواه أحمد].
فلا تنتظر التعويض في شخصٍ آخر فقط، بل في جبرٍ رباني يبدلك راحة، وسكينة، ورزقًا، وصحبة صالحة، بل وحتى رضا داخلي يغنيك عمّن خذلك.
لا تسمح للخذلان أن يطفئ نورك
إياك أن تجعل خيانة أحدهم تحوّلك إلى نسخة قاسية من نفسك. حافظ على صدقك، ونقاء سريرتك، فذلك أثمن ما فيك.
تأمل قصة يوسف عليه السلام: خانه إخوته، كذبت عليه امرأة العزيز، تُرك في السجن سنين، ومع ذلك لم ينهزم قلبه. بل قال بثقة:
"رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ" [يوسف: 33].
فهل خذله الله؟ لا. بل رفعه من السجن إلى عرش الملك.
الرسالة الأخيرة:
سيعوضك الله. ليس فقط ليُنسيك ألم الماضي، بل ليُريك أن ذلك الألم كان طريقًا يقودك إليه. فاصبر، واثبت، وانتظر جبر الله، فإنه قادم لا محالة، والجبّار إذا جبر، أدهشك عوضه بما لم يخطر لك على بال.
Leave a comment
Your email address will not be published. Required fields are marked *