`
أمي ستعود قريبا

أمي ستعود قريبا

قصة إنسانية مؤثرة تحكي عن معاناة فتاة نشأت في بيئة قاسية مليئة بالعنف والإهمال

 

التعنيف جريمة بشعة لا تقتصر أضرارها على الضحية فقط، بل تمتد آثارها إلى الأجيال اللاحقة، مخلفةً ندوبًا نفسية قد لا تندمل مدى الحياة. كيف يمكن لإنسان أن يظلم مخلوقًا كرمه الله، وأوصى به نبيه صلى الله عليه وسلم خيرًا؟ كيف يتحول أقرب الناس إلى مصدر للألم والعذاب؟

قصتنا اليوم حقيقية، ترويها صاحبتها بنفسها، كاشفةً عن رحلة طويلة من المعاناة بدأت منذ نعومة أظافرها.

بداية الألم: طفولة بلا حنان

تقول صاحبة القصة:
"منذ أن وعيت على هذه الدنيا، لم أعرف سوى العذاب. كنت أعيش مع امرأة قاسية القلب، تعاملني بوحشية، بينما تغدق كل حبها ورعايتها على ابنها، أخي كما كنت أظن. كنت أرى الفرق الشاسع بين معاملتها لي ومعاملتها له. كانت تجبرني على الخروج ليلاً لشراء مستلزماتها، بينما يبقى هو في المنزل، مدللًا ومحميًا. كانت تضربني وتحرّضه عليّ ليضربني أيضًا، حتى أنه في إحدى المرات كسر أحد أسناني. وعندما كان الناس يسألونها إن كنت ابنتها، كانت تنكر وتقول: "إنها ابنة أختي"، وعندما أسألها عن السبب، كانت ترد عليّ ببرود: "لكي لا يحسدونا"."

لم تكن تعاملها كابنتها، بل كغريبة، كمجرد خادمة تؤدي أوامرها بلا نقاش. كانت تصرخ، تعنف، وتحرمني من أبسط حقوقي. وعندما كنت أسألها عن شهادة ميلادي أو صوري وأنا طفلة، كانت تتهرب وتقول إنها ضاعت. كنت أتساءل دائمًا: من أنا؟ من تكون أمي؟ لماذا تعاملني بهذه القسوة؟

نافذة أمل: الجار الطيب

وسط هذا الظلام الدامس، لاحظ أحد الجيران الطيبين معاناتي. كان يرى كيف أخرج في وقت متأخر من الليل، وكيف تعاملني المرأة التي أعيش معها بقسوة غير مبررة. ذات يوم، لم يستطع أن يتحمل أكثر، فأخذني إلى منزله ليحميني، لكنه لم يكن يعلم أن محاولته هذه ستجر عليه الاتهامات.

عندما علمت المرأة باختفائي، سارعت إلى إبلاغ الشرطة واتهمته باختطافي. وعندما سألوني إن كان قد اختطفني، أخبرتهم الحقيقة: "لا، لم يختطفني، لقد أشفق عليّ وعاملني بلطف، كما يفعل أي أب مع ابنته."

لكن هذه الحادثة كانت نقطة تحول، فقد بدأت الشكوك تحيط بقصتي. وعند التحقيق، تم إيداعي في دار الأمل لرعاية الفتيات، وكان عمري آنذاك 12 عامًا.

حياة جديدة… ولكن بظل المجهول

عندما دخلت الدار، كنت خائفة، وحيدة، لا أعرف من أكون أو ما الذي ينتظرني. وبعد فترة، جاءت المرأة التي ربتني إلى الدار تطالب باسترجاعي، لكن عندما طُلب منها إثبات نسبي لها، شعرت بالارتباك ثم اختفت تمامًا ولم تعد أبدًا.

عشت في الدار لسنوات، وحاولت التأقلم. انغمست في الدراسة والأنشطة، لكن فكرة واحدة لم تفارقني: من أنا؟ من تكون أمي؟ هل لي عائلة حقيقية؟ أحيانًا كنت أعيش على أمل أن أجد الإجابة يومًا ما، وأحيانًا أخرى كان اليأس يقتلني.

ظهور أول خيط للحقيقة

بعد ثماني سنوات من اختفاء المرأة، جاءت إلى الدار امرأة تدعي أنها قريبة لها، وأخبرتنا أن المرأة التي ربتني مريضة بالسرطان وترقد في المستشفى. أعطتنا رقمها، وعندما تواصلنا معها وسألناها عن حقيقتي، ردت بصوت ضعيف: "أنا مريضة الآن، لا أستطيع التحدث."

عاودنا الاتصال بها بعد فترة، واتفقنا على زيارتها لمعرفة الحقيقة، لكن القدر لم يمهلنا، فقد توفيت قبل أن نصل إليها. شعرت أن الأمل قد ضاع، وأنني سأظل مجهولة الهوية إلى الأبد.

رحلة البحث عن العائلة الحقيقية

لكن لم نفقد الأمل تمامًا. طلبنا من المرأة التي زارتنا أي معلومات عن عائلة المرأة المتوفاة، فأعطتنا رقم أحد إخوتها. بدأنا رحلة البحث، وانتقلنا من شخص إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، حتى وصلنا إلى منزل خارج المدينة، حيث طرقت المديرة الباب.

فتحت لنا امرأة، وكانت المفاجأة! كان الشبه بينها وبين الفتاة في الدار مذهلًا، نسخة طبق الأصل. شعرت بالذهول، وكأنني أنظر إلى انعكاسي في المرآة.

سألتها المديرة:
"هل لديك أبناء؟"
فأجابت: "نعم."
فسألتها مرة أخرى: "هل هم جميعًا من نفس الأب؟"
فأجابت: "لا، لدي أبناء من زواجي الثاني."
عندها، سألتها المديرة السؤال الحاسم: "هل لديك ابنة من زواجك الأول؟"

وهنا، بدأت المرأة بالبكاء، ثم صرخت قائلة: "أعيدوا لي ابنتي! لقد فقدتها منذ 23 عامًا!"

لم يكن هناك شك بعد الآن، لقد وجدت أمي.

لحظة اللقاء… ودموع السنوات الضائعة

عدنا إلى الدار، وأخذنا الفتاة معنا إلى منزل والدتها. وعندما فتحت الأم الباب، لم تتمالك نفسها، احتضنت ابنتها بقوة، وانفجرت كلتاهما بالبكاء.

كان اللقاء أشبه بمشهد سينمائي، لكن هذه المرة كان واقعًا مؤلمًا. دموع الأم كانت تحمل ألم الفقد، ودموع الابنة كانت تحمل ألم الحرمان. ساعتان من البكاء دون توقف، وكأنهما تحاولان تعويض 23 عامًا من الفراق.

جلست الأم تحكي قصتها، وكيف اضطرت إلى ترك ابنتها. كانت تعيش في قريتها مع والدها وزوجة أبيها التي كانت تعاملها بقسوة. وعندما كبرت، أجبرها والدها على الزواج من رجل يكبرها سنًا، وبعد أن أنجبت طفلتها الصغيرة، توفي زوجها، فعادت إلى منزل والدها.

لكن القسوة لم تنتهِ، فاستمرت معاناتها من التعنيف والضرب، حتى قررت الهرب إلى المدينة لحماية ابنتها. هناك، تعرفت على المرأة التي ربت الفتاة، وكانت تعتبرها كأخت.

عندما تزوجت من أخي صديقتها، أقنعتها الأخيرة بأن تترك طفلتها معها، بحجة أنها ستكون أقرب لها وستحميها من قسوة الزوج. وبعد تردد، وافقت الأم على مضض، لكنها لم تكن تعلم أن هذه المرأة ستختفي بابنتها إلى الأبد.

من المسؤول عن هذه المأساة؟

اليوم، وبعد أن عرفت الفتاة حقيقتها وعادت إلى والدتها، تبقى الأسئلة الحارقة:

  • من المسؤول عن حرمانها من أحضان أمها؟
  • من يتحمل سنوات القسوة والضياع التي عاشتها؟
  • كيف يمكن للإنسان أن يعامل طفلة بهذه الوحشية؟

هذه القصة ليست مجرد حكاية، بل صرخة لكل أب وأم ليحافظوا على أبنائهم، وألا يتركوا قسوة الظروف تحرمهم من فلذات أكبادهم.

فليتقِ الله كل أب في أبنائه، ولتتقِ الله كل زوجة أب في أبناء زوجها، وليعلم الجميع أن القسوة لا تخلّف سوى الألم، والضياع، والندم.

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site is protected by reCAPTCHA and the Google سياسة الخصوصية and شروط الخدمة apply.